هكَذا تتركُ وراءكَ الإثارةَ المشبعةَ بروحِ السّفرِ وجنَّة أوروبا، عندمَا تقومُ بالاتّصالِ الأوّلِ لترتيبِ طريقِ رحلتكَ، سيكونُ هذا الاتّصالُ جدياً وسيكونُ مثلَ موافقةٍ مبدئيّةٍ على تحمُّلِ مسؤوليةِ كافَّةِ النَّتائجِ المتَرتِّبةِ على سَفركْ، والَّتي يكونُ أقصَاها في حالةِ الفشلِ، الموتْ، وأقصَاها في حالةِ النَّجاحِ، العَيشْ.
ستقفزُ بذهنكَ مباشرةً، صورٌ لأشلاءِ أطفالٍ قَضوا قصفاً في سوريا، وصورٌ لأطفالٍ عَبروا المتوسّطَ نحوَ إيطاليا، وعوائلُ تفترشُ الحدودَ التُّركيةَ وعرسالَ اللّبنانيةِ، وعوائلَ قطعتْ مسافاتٍ طويلةً، مشياً صوبَ اليونان وبلغاريا.
ثمَّ لاوعيكَ سيتكفَّلُ بإحضارِ كلِّ العذَاباتِ الّتي يُعاني منها النّاسُ في البلدِ، وسيطردُ كلَّ الأفكارِ السَّلبيةِ عن الهجرةْ، كالفشلِ والغرقِ والموتِ، وسيأتِي بِأوروبا ويرسمُها لكَ كالجنَّة، تدخُلها بدونِ حسابْ.
ثمَّ تبدأُ التَّخطيطَ للرِّحلةِ وتبدأُ بالنَّظرِ حولكَ، وستجدُ أنَّكَ لستَ بأفضلِ حالٍ من رفاقِ رحلتِك، فربّما تُقابلُ أشخاصاً أفضلَ منكَ عِلماً أو مالاً، وستَرى منْ هوَ أضعفُ وأقَوى منكْ.
هنا.. للمرَّةِ الأولَى ستَعترفُ أنَّ هناك منْ هوَ أحسنُ منكَ وربَّما أذكَى، وستضعُ له الحُججَ ليكونَ كذلكْ، فقطْ لتقولَ: “إنَّ هذا الأفضلَ منِّي قرَّر السَّفرَ بنفسِ طريقتِي” وستقولُ في نفْسكَ إنَّ روحَه غاليةٌ عليه، وتبدأُ بامتصاصِ تطْميناتِ النَّاسِ حولكْ.
بهذهِ الطَّريقةِ تُرضي نفسكَ، ثم ستشكّ فيها وتبدأ بسؤَالها هل أحبّكِ هل أخاف عليكِ، هل أنا جديرٌ بمسؤوليةِ هذا الجسد؟؟ ليسَ لديَّ ما أخسرهُ. سيقولُ لكَ فريدريش شيلر: لكي لاتفقدَ كلَّ شيءٍ عليكَ المغامرةُ بكلِّ شيء.
وستقومُ بهذهِ المغامرةِ كسمكِ السَّلمونِ الأحمر، قاطعاً أميالاً وأميالاً لتصلَ إلى محطتَّك َالأخيرةِ لتضعَ رحالكَ وتموتَ في الحياة.
لكنْ، ليستْ كلُّ السِّيناريوهاتِ ميلودراميةً، مائلةً إلى تراجيديا شرفيّة في الختام.
فكما السّلمون الأحمر لا التَّيار ينصفهُ ولا صنعةُ الصّيادين، كذلكَ الإنسانُ، لا البحرُ ينصفهُ ولا الأسماكُ الجائعة.
أيُّ طورٍ هذا الذي تثأرُ فيه الأسماكُ لنفسِها من بَني الإنسان!
في عرضَ البحرِ، يعرفُ الإنسانُ أنَّه ليس سمكةً، وأنَّ المياهَ ليستْ لغسلِ الذُّنوبِ والطّهارة.
محالٌ أنْ يرضى إله الماءِ السُّومريّ (أيا) بتعميدِ كلّ هؤلاءِ البشرِ عنوةً في البِحار.
ومستحيلٌ لهذهِ المياهِ أن تكون أصلَ الحياة. ستحسذُ أنَّ هذه المياه شيطانٌ أسوأُ من “داعش”.
قال المهرّبُ لي: أنا أبو فلان… إسألْ عنّي في إسطنبول كلّها… أنا أشهرُ من “برهان غليون وميشيل كيلو” هنا.
لكنَّكَ في إسطنبول، ستتقمّصُ دوركَ الحضاريّ إلى آخرِ ثانيةٍ، وستندمجُ في المدينة ِحتَّى أخمصِ قدميكْ، ولن تعبرَ الشّارعَ الخاَلي من السَّياراتِ قبلَ أن تسمحَ لكَ إشارةُ المرور.
في بودروم، تلتحمُ مع السُّياحِ الكثِر، لكي لا تربكَ النّفوسَ البشريّةَ بأنَاكَ، لكنّكَ في الّلحظةِ الأخيرةِ ستنزعُ وجهكَ المترفَ والمرتاحَ، وتبدّلهُ بوجهِ المرارةِ والَّشقاء، وستعبرُ البحرَ دونَ أنْ تلتفتَ إلى إشاراتِ الكونِ الكثيرةِ الّتي تُحذِّرك.
أمامَ الّلاجئين مثلك، ستحسُّ أنَّكَ طبيعيٌّ ومرتاحٌ ولستَ بحاجةٍ لارتداءِ وجوهٍ كاذبةٍ، لكنَّ أمّي الدرويشةَ لا تَعرفُ الفيلسوفَ الألمانيّ فريدريش شيلر وقَلبُها لايحتملُ كونِي “نحفان” قليلاً وبكتْ، ليتحمّل أنَّي سأعبرُ عرشَ إبليسٍ وتفرحْ.
قبلَ أن نصلَ إلى “النُّقطة” (مكانُ الانطلاق)، يقولُ سائقُ الباصِ ومعاونُه (المتعاملَين مع المهرّب)، أنّ علينا التَّخلصَ من العملاتِ التّركيةِ لأنّ اليونانيين “عنصريّون”، وعندمَا يجدونَها مع أحدِنا سيغضبونَ، رفضَ عددٌ من الشّبانِ دفعَ الأتاوةِ، وحصلَ خلافٌ كبيرٌ على الشّاطئ، بدأَ بصراخِ الشُّبانِ، ومحاولةِ السَّائق تهديدهمْ بسكيّنٍ صغيرةٍ، وانتهى في المخفرِ التّركيّ، بتسجيلِ الواقعةِ ضدَّ أبو أحمد، ضدَّ أبو عبد الله، ضدَّ أبو علي، وضدَّ مُهرّبٍ مجهولٍ لا أحد يعرفهُ من المهاجِرين، هكذا كانَ الاتّفاقُ “أنْ نَحمي المُهرّب”.
في المحاولةِ الثَّانية، كانَ الخلافُ حولَ نفخِ “البلمْ” بين الشّبانْ، صراخُ المهرّب التّركي أقنعَ الجميعَ، بأنَّهمْ جميعاً معنيونَ بالرُّكوبِ، وأنّه سيَرجعُ إلى بيتهِ ونَبقى نحنُ في البحر.
“انفخُوا جميعاً قبلَ أنْ تحينَ السَّاعةُ ويُنفخَ بالبوقْ”.
لكنّي تَذكَّرتُ كلامَ السِّمسارِ أبو محمود: “لا تأمّن بأخوك بالبلمْ، ولمّا تشوفْ خَفرْ السَّواحل اليونَاني، شقّ البلمْ بمَشرطْ، ونطّ بالمي، عم قلَّكْ هيكْ لأنِّي حبّيتك”، أحدُ الشُّبانِ أرادَ أن يثقبَ البلمْ، في عرضِ البحرِ، بعد ثلاثِ ساعاتٍ من الرّحلة، ظنَّاً منه أنَّ خفرَ السّواحلَ اليونانيّ يراقِبنا، وعندمَا نَغرقُ سيأتي لانقَاذنا، لكنَّ ردَّة الفعلِ اللاإراديةِ لأحدِ المُهاجرين كانتْ أسرعَ، حيثُ رمى ابنتهُ الصَّغيرة بأحضانِ أحدِ المُهاجرين، واندفعَ لخطفَ المقصَّ من الشَابِ ورميهِ في البحر.
ثمَّ في عرضِ البحرِ، لم يأبهْ لحالنا سوى طيورُ النّورس، لكنَّ وجودَها كانَ يبعثُ الطّمأنينةَ في نفوسِنا أكثرَ من قواربِ الانقاذِ التركيّة.
في المنتصفِ، صبيٌّ لديهِ سبعة ُ أعوامٍ جميلةٌ وأربعةٌ قاسيةْ، قالَ للجميعِ: “أريدُ أن أنامَ، أيقظونِي في اليونانْ”، أيقظناهُ في “الكامبِ” اليونانيّ، سألتْهُ موظفةُ الأمم المتّحدةِ عبر “السّكايب”: “هل أنتَ مرتاحٌ في اليونانِ”، كشَّ الذّبابَ المُتجمهرَ حول وجههِ، وقالَ لها: “مشان الله، قوليلهم يعطونَا الخَارطيات بسرعَة، القرصْ دَبحني”.
قالتِ الموظفةُ للجميعْ: ابصُموا في اليونانِ وعليكمْ الأمانْ، وموفقينَ بالوصولِ إلى أوروبا.
في أثينا، مهدُ الحضارةِ الغربيّة والديموقراطيةِ، منذُ آلافِ السِّنين، الملابسُ الجيدةُ أكثرُ أهميّةً من الأكلِ والشّرب، عليكَ أن لا تكونَ أنتَ فقطْ، تَظاهرْ بأنّكَ أوروبيٌّ، سائحٌ، أيَّ شيءٍ ماعدا اللّاجئ، وابتعدْ عن الشّرطة وغنّيلها، فالدّوريةُ نفسها مستعدةٌ لأخذكَ ثلاثَ مراتٍ يوميّاً لتتحقّقَ من هويّتك.
قلتُ لموظفِ الاستقبالِ في الفندقِ بأنّ اليونانيين “عنصريون”، قال لي: “نحنُ شرقيونَ أيضاً لاتنسَ ذلكْ”، قلت لهُ في قلبي “بدنَا 600 سنة لنصيرْ عنصُريين مِثلكم”.!
تهرَّبَ منّي مهرّبُو المطاراتِ، قالَ لي أحدهمْ: “ابقَ هنا واعملْ بالتَّهريبْ، صدّقني أوروبا لا تَستحقُّ كلَّ هذا العَناء، أنا كنتْ عايش بألمانيا”، ثمَّ قالَ لي أحدهمْ : “لا تحاولْ من المَطار، بَشرتكَ سمراءُ ووجهكَ مألوفٌ للكنترولْ”، لكنَّهُ أحبَّ رفيقي الأشقرَ وقال لهُ: “أنتَ بتنفُدْ ، قرّرْ وما منخْتلِف، بنصّ القيمةْ بطيّرَك!”، لكنَّ رفيقي الأشقرَ اشترى هويَّةً فرنسيَّةً، على نفقتهِ الشَّخصيةْ، وحلَّقَ بها مغرِّداً إلى السّويد.
قال لي واحد من المهربين أنّ عليَّ الذهابَ مشياً إلى صربيا : “اجمعلِي رفقاتكَ يلي مثلكْ وتعالْ”، اتصلتُ بما تبّقى من السّمرِ في رِحلتنا، وخرجنَا صوبَ ألبانيا، كانَ ذلك قبلَ الفتحِ العظيمِ، فتحِ الحدودِ المقدونية أمام اللّاجئينَ، وبعد مدّةٍ طويلةٍ على اتفاق المقدونيينَ على عَلمِهمْ وشعارِهم الوطنيّ.
على الطريقِ، ندمتُ بأنّي لم أفكرْ بكتابةِ وصيّتي مبكَراً، كنّا قد مَشَينا حوالي ستِّ ساعاتٍ، قال دَليلنا: “ها قد وَصلْنا، أترونَ هذا الجبلَ، خلفَه تنتظِرُنا السّياراتُ، لتقُلَنا إلى دولةِ مونتينيغرو (الجبل الأسود)”.
للمَرّةِ الأولى شَعرتُ بالحنينِ لعنصريَّةِ صاحبِ العقارِ الذي كنتُ أستأجِرُه في بيروت، وندمتُ على هذهِ الرِّحلة، كانتْ أقدامِي تَشتِمني، وحقيبةُ ظَهري خجلةٌ من نفسِها لما تَسبّبتْ لي من أذى،دقَّاتُ قلبي كانتْ تقولْ: “كافر كافر”، لكنَّ حلاوةَ بناتِ الجبلِ الأسودِ أنْسَتني مرارةَ الزَّهرةَ الغريبةَ التي حاولتُ مضغَها في الجبل، بعد ثلاثةِ أيَّامٍ من العَطشْ.
سألتُ سائقَ التّكسي المتّفقِ مع المهرّبِ الذي سيعبرُ بنا إلى صربيا: “لماذا لايوجدُ قوارب تقلُّ المهاجرين من الجبلِ الأسودِ إلى إيطاليا عبرَ البحرِ الإدرياتيكي؟”
فضحكَ بصوتٍ عالٍ وقال: “لا أستطيعُ التَّوغلُ أبعد من هذه النّقطةِ، فالطريقُ خطرٌ هنا ويوجدُ قطّاعُ طرقٍ، اقطَعوا ذلكَ النّهر واستمرّوا في المشي حتى تجدوا كوخاً صغيراً. سيأتِي الدّليلُ ويعبر بكم إلى صربيا”.
مشَينا بحذرٍ خائفِين من شرطةِ الحدودِ ومن ظلالِنا الضّخمة، شعرْنا بأنّ الأشجارَ تراقِبنا والغيومَ تريدُ فضْحَنا. وعندمَا يعوي كلبٌ، تشتُمهُ وتملأكَ الرَّغبة بامتلاكِ قوةٍ عجيبةٍ، لا لتصلَ بها إلى أوروبا، بلْ لتقتلَ هذا الكلبَ المزعج.
وصَلْنا إلى كوخٍ فيه ثمانيةُ مهاجرين سبقونَا، أتى المهرّبُ المونتينيغري، أخرجَ مسدّسه “البيريتا” وقال بلغةٍ عربيةٍ مُكسّرة:ٍ “أنا مُجاهد أنا أريد الجهادَ أنا كنتُ في الشّيشان”، ثمّ أنارَ هاتفهُ في العتمةِ وبدأ يُرينا صوَرهُ وصورَ مسلحينَ ملثّمين، لفتَتْ نَظري صورةٌ له يَجلس في سيارةٍ حمراءَ مع فتاة جميلة. سألتهُ عنها، قال:” رزقَ الله، أنا مجاهدٌ وأنتم مسلمونَ، سآخذكمْ إلى صربيا:.
بدأنَا طريقنَا بلا قمرٍ، وعندَ طلوعِ الفجرِ وجدنَا أنفسَنا نمشِي مع الغيومِ، وصلْنا إلى صِربيا، وجدتُّني والجميعَ نُضيءُ هواتِفنا لنرى موقِعنا من الخَريطة، إنّنا في “كامبٍ” لقريةٍ محسوبةٍ على مُسلميْ صِربيا، لطافةُ السّكانِ تبهركَ أكثرَ من اختراعاتِ وكالةِ الفضاءِ “ناسا”
في بلغراد كنّا ثمانيةً، لكنَّ المهرّبِين أبَوا إخراجَنا إلى النّمسا.
كانتِ الإشاعةُ المتداولةُ، أنّ مهاجراً من دولةٍ ما، عبرَ الحدودِ نحو هنغاريا، اغتصبَ فتاةً صغيرةً ثم قَتلها. لكنّ المهاجرينَ آمنوا بالقصّةِ ووافقوا على زيادة السّعر. غيرَ أنَّ رفيقي أمجد لم يؤمنْ، وقالَ لي إنّه بعد كلِّ هذهِ الرّحلةِ الشَّاقةِ، كيف لمهاجرٍ أن يرتكبَ هذهِ الجريمةْ، أنا الآنَ غيرُ قادرٍ على اغتصابِ يديَّ وزيادةِ السّعرِ، وغرائِزي في غَيبوبةٍ لا أملَ منها، لذلكَ غيرُ مقتنعٍ بهذه القصَّة وبالمهرِّبِين.
قبلَ أن نحاولَ العبورَ وحدَنا نحو هنغاريا، جرَّبتُ العبورَ صوبَ البلدِ الجميلِ البوسنة والهرسك، بواسطةِ جوازِ سفرٍ نظاميٍّ وأحسسْتُ بالنّعمةِ الأوروبيّةِ، كان ذلكَ في أحلامي، لكنّ أمجد جرَّبَ كثيراً في الماضي قَطْعَ الحدودِ السوريّة التّركية، لذلكَ اقترحَ عبورَ الحدود دونَ مُهرّبْ.
اشترينَا ملابسَ جديدةً، وعلى بُعد أمتارٍ من المعبرِ الهنغاريّ، تمشَّينا بهدوءٍ نحو أوّل قريةٍ، جلسْنَا في موقفِ الباصاتِ وكلُّنا ثقةٌ بملابِسنا الجديدة. أوقَفْنا تَكسي وقلنَا له بأنَّنا نريدُ الذهابَ إلى بودابست، قال لنا سآخذكُم ب 400 يورو بعدَ أن اكتشفَ أنَّنا غًرباء، وافَقْنا رغمَ مضاعفتهِ للسّعر.
في بودابست تملَّكَنا شعورٌ بعدمِ الارتياحِ، وكأنّنا في مدينةٍ قد تتعرّضُ للقصفِ بأيِّ لحظةٍ، قرَّرنا الذهابِ بتكسي آخرَ فورَ وصولِنا، لكنَّ خوفَنا جَعلَنا نرتَبك، ووقفنا لحظاتٍ لنملئَ بُطونَنا من مطعمٍ تركيٍّ، قبلَ أن نأكلَ دخلَ شابٌّ عربيّ الملامح إلى المطعم،. وحينَ لمحَتْنا عينَاه أتَى مُسرعاً باتّجاهنا، أزاحَ كرسيّاً من طاولِتنا وجلسَ، “الحمد لله عالسلامة شباب”،ثمَّ قال: “عيونكمْ تختلفُ عن عيونِ البشرِ هنا، والارتباكُ يسيلُ كالعرقِ من أجسامكمْ، لا تخَافوا لن يَسألكم أحدْ أنتمْ في أمان”.
كانَ قلبي قدْ هبطَ إلى معدَتي، لكنّه عاد ليستقرَّ في مكانهِ بعدَ أن لكَزنِي أمجد من تحتِ الطّاولة، أصرَّ الشَّابُ على استقبَالنا ليلةً في منزلهِ، وفي اليومِ التَّالي أحضرَ لنا تكسي، ثمَّ اتَّجهنا إلى النِّمسَا.
وصَلنا إلى أطرافِ فيينا، وبعد أن عرِفَ سائقُ التكسي أنّنا سوريونَ أنزلنَا بعيداً عن مركزِ المدينة، فكانَ علينا أن نمشيَ سبعَ ساعاتٍ تقريباً. حاولَ أمجد إيقافَ تكسي، أعطيناهُ عنوانَ “المركزَ الإسلاميّ” في فيينا، لكَّنه تحدَّثَ بلغةٍ ألمانيةٍ بدَتْ مهذَّبةً، واعتذرْ.
قَرَّرْنا مواصلةَ الطَّريقِ مشياً كيلا يَنكشفُ أمرُنا، وعندَ منتصفِ الّليل وصلنَا إلى المركزِ الإسلاميّ، وحاولنا فتحَ البابِ الرئيسيّ لكنَّه كان مقفلاً. أتى إلينا أحدُ المهاجرينَ وقالَ لنا بأنْ نبتعدَ عن المركزِ ليلاً، فهذا سيزعجُ المسؤولَ وقد يتصلُ ، نِمنَا في الحديقةِ بين الشُجيراتِ الصَّغيرةِ، بالقربِ من نهر الدَّانوب، حلاوةُ المنظرِ نهاراً على ضفافِ الدّانوبِ اختَلطَتْ مع مرارةِ الرّحلة فأصِبنا بِداءِ “اللّاطعمِ”، عندما كنَّا نأكلُ بعضَ الطّعامِ الذي أحضرنَاه من السَوبر ماركت، لكنَّ الصُّدفةَ لا تساعدُ المخترعِينَ فحسبْ، الصّدفة ساعدَتنا نحنُ المهاجرينَ، عندمَا قابَلْنا أحدَ النّمساويين منْ أصولٍ سوريّةٍ كان يَستلقي أمَامنا على العُشب.
من دونِ مقدّماتٍ قال: “مَامشكلتُكم؟”
قُلتْ لنفسي: “لدى العربِ المقيمينَ في الخارجِ موهبةُ اكتشافِ الطَّالعْ”، ثمَّ قلتُ لهُ أنَّنا بانتظارِ حوالةٍ ماليةٍ ستصلُ خلالَ يومينِ، من ثمَّ علينا إكمالَ رِحلتنا، سألَنا: “أتَنامونَ في المركز الإسلاميّ؟”
قلنَا لهُ: “لا يُسمَح لنا بِالمبيتِ فيهِ، وننامُ هنا بينَ الأشجارْ”.
بعد أن قدَّمَ لنا نَصائحهُ الكثيرةِ للبقاءِ في النّمسا، قدَّم لنا ليلاً سيارتَه المغلقةَ، وأعطانَا مفتاحَها، دَخلْنا إليها ليلاً.
رائحةُ السّيارة من الدّاخلِ كانت كرائحةِ المطبخِ السُّوري، استمتَعنا بالطّعام السّوريّ الذي أعدّتهُ لنا زوجتهُ.
في اليوم التّالي اتّصلَ بي أمجد مساءً من مطارِ “أرلاندا” في السّويد، كنتُ في المحطّة الرئيسيّة في فيينا، أحاولُ البحثَ عن قطاريَ الضّائع صوبَ ميلان، وأنظرُ إلى الشّاشاتِ، وأروحُ وأجيءُ كأنّني سرقتُ شيئاً.
” شكراً مونيكا بيلوتشي، أفلامكِ الكثيرةُ الّتي شاهدتُها لم تضِعْ سدىً”، فبالرّغمِ من عدمِ تمكّني من التّمييزِ بين اللغة الإيطاليةِ وغيرها منَ اللّغاتِ الأوروبيةِ، فإنّني ميّزتُ العائلةَ الإيطاليّة التّائهةَ وسمعتُ كلمةَ “ميلان” كثيراً، تَبعتُهمْ فوجدتُ قِطاري.
جرَّبَ المضيفُ تقديمَ النبيذِ والحَلوى، ومايشتَهيهِ المهاجرُ على الطريقِ هو شبكةُ انترنتٍ لاسلكيةٍ وفيشٌ كهربائيٌّ للشّحنِ، فجرّبتُ البحثَ عن أعمالِ “روس دالي” وسمعت “Hatif”، وجرّبتُ الاختباءَ من كلِّ المضيفينَ والجَميلات.
في ميلان، شربتُ القهوةَ الإيطاليةَ وأكلتُ البيتزا، وتفرَّجتُ على زاويةٍ مَهيبةٍ، يجتمعُ فيها السّوريينَ بمحطّةِ ميلانِ الرّئيسية.
قطعتُ ذاهباً إلى نيس.
نيس، أجملُ من باريس، وباريس أجملُ من بروكسل، ولكنّي أريدُ الذهابَ إلى بريطانيا، حاولتُ القفزَ من على السّورِ في ميناءِ كالي وحاولتُ من القلعةِ المهجورةِ في كالي أن أخلقَ جناحينِ كــ”عباس بن فرناس”، لكنّ الفرنسيينَ كانوا بالمرصادِ لأحلامِي.
أحدُ الشّبانِ السوريينَ كانَ أذكَى منّي، فاشتَرى بطاقةَ تعريفٍ و”تي شيرت” تشبهُ التي يرتَديها موظّفو الأمنِ وقفز من فوقِ السّورِ، وتَمشَى بين النَّاسِ واثقاً من نفسهِ إلى أن صَعدَ على متنِ الباخرة.
قال المهرِّبُ، ابنُ العشرينَ عاماً:” تعالَ إلى بروكسل”، ومن بروكسل ذَهبنا إلى الحدودِ الهولنديّة.
أمامَ أنظارِ سائِقي الشّاحناتِ الخَائفينَ، فتحَ لنا الشَّاب المندفعُ بابَ السّيارةِ، وتوعّدَ السائقِينَ الُمندهشينَ مهدِّداً إنْ فَضحوا أمرنَا.
تناولَنا ما تنَاولناهُ في الشَّاحنةِ من طعامٍ ليسََ “حلالاً” ولكنَّه حلالٌ في عرفِ المهاجرينَ، وعندَ عبورِ الشَّاحنةِ، أجهزةُ التَّفتيشِ في الميناءِ، أحسّتْ بالتراجيكوميديا، وكأنّنا في مسرحيةٍ عبثيّةٍ لا منطقَ فيها ولا حبكَة.
خُيّلَ إليّ طيفُ غسان كنفاني يقول: “لا تقرعُوا البابَ لا تقرَعوا!”، وتذكَّرتُ توفيق الحكيم و”يا طالعَ الشّجرة”، وصرتُ أقولُ : “مَن تجرّأ مِن عباقرةِ المسرحِ العالميِّ تمثيلَ هذا النَّصِ والعيشِ فيهِ، مثَّلنا دورَ البضائعِ، من يقدرُ منهمْ على ذلكَ؟”
أنا كنتُ كارتونةَ شوكولا سويسريّة على وشكِ الذّوبانِ، واحدٌ منّا مثلَ دور الرَّافعة، وواحدٌ تلاءمَ وإنسانيّتهِ مع شكلِ الدّولاب.
صعدَ الكنترولُ الإنكليزيّ إلى الشَّاحنةِ ونادى “يا للمسيح!”، اعتقدْنَا أنَّ أمرنَا قد كُشفَ، لكنَّ المسيحَ جعلَهُ يغلقً الباب ويَنصرفْ.
أمّا صوتُ مزمارِ الباخرةِ، فكانَ وقْعُهُ على قلوبِنا كمُوسيقا الفلوتْ، بعدَ أن تأكَّدنا أنّ السّفينةَ بدأتْ بالعبورِ إلى الضّفةِ الأخرى.
فكَّرتُ كثيراً بمَن لم يَخرجْ منَ البلد، وبقَي تحتَ المُعاناةِ والقَصف، وفكَّرتُ بالغارقِينَ والمرفُوعينَ إلى السَّماء، وبمِن سبقُونِي إلى أوروبّا وكمْ مِن قصَّةٍ حدثَتْ، طوالَ السنواتِ الأربعِ الماضية، ورحتُ أقولُ إنَّها رحلةٌ عاديّةٌ، أصبحَ الأمرُ اعتياديّاً على الجميعِ وعَلينا.
تلقائيّاً، أخرجتُ هاتِفي لألتقطَ صورةََ “سِيلفي”، من حقِّ الجميعِ أن يلتقطَ السّيلفي، فحينَ يقرِّرُ العالمُ أن لا يراكَ، من حقِّكَ أن تلتقطَ صورةً لنفسكَ وتقولَ للعالمِ: “أنا أيضاً لا أرَاكْ”.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.