وعُدتُ من ريف حمص أزجر عيني المريضة بملح الدمع، أروّض قلبي علّه يعقل، لعلّ والدتك تقتنع أني غاضبٌ وحسب. غاضبٌ لأنهم منعوني من رؤية ابني.
…..
في صغرك، لم تطلب مني في العيد لعبة المسدس. ومرة رأيتك في الكرم مع رفاقك. وقفتُ أتفرّج عليكم تصطادون الحشرات بالمصفاة كما تعلّمتم في المدرسة. اكتفيتَ بمراقبتهم، ولم تشاركهم بتثبيت الدبور الأسير على ورق الكرتون بدبوسٍ على رأسه، ودبّوسين على جناحيه.
ولم تكن من الأبناء العنيفين، ولا العنيدين. ولا العاصين قبل أن تلبس البدلة العسكرية.
قلتَ لي: لا يسمحون لنا بالمغادرة يا أبي. قلتُ: أنا أروح إلى ولدي. حملتُ إليك الخبز، والجوارب، والثياب الداخلية، وكنزةً، وبطانيةً، وملبّساً بالنعناع لك ولرفاقك، ومالاً لمصروفك كما يحمل الأهل لكل أبنائهم المجنّدين. ودخلتُ مهجعكَ، وبالكاد رأيتُ التماع نجمةٍ جديدة على كتفيك، وشممتُ، أوّلاً بأوّل، رجع القسوة الوليدة في صوتك.
طمأنتني عن حُسن أحوالك. أنك آمنٌ هنا في مهجعك، وأن السواتر والحواجز تحجبكم عن الإرهابيين، وأن معكم أسلحة تكفيكم إلى يوم الدين، وأنك ــ أنت الجندي الباسل ــ لا تذكر بالضبط كم قتلتَ من الإرهابيين، ربما ثلاثين، ربما أربعين… لم تعد تذكر! ثم يعلو صوتك فخوراً وأنت تخبرني أنّ الضابط الأعلى اختارك لتقود الرتل الأول في الهجوم، وأنّ مطاردة العصابات المسلحة لم تكن سهلةً لأنّ أفرادها يخبرون تضاريس المكان، ويشبهون أهلنا في الريف، ويتكلمون بلهجاتنا المألوفة، ويقاتلون بصبر المدافعين.
وقاطعتُك: لعلّك على خطأٍ يا ولدي! ولم تقبل أن تسمعني، وغضبتَ، وأغضبتني. وصمَتنا على نيّتين. وتكوّرتُ على فراش الشوك في مهجعك. ظلّت مسامير كلامك تثقب أذني إلى أن لاحت أولى خيوط الفجر، وتركتك نائماً، وخرجت أرجو لو أنّني أهرق كلّ هذا الدمع في جنازتك الوطنية يا بنيّ، يا عاري. أو؛ لو أنهم منعوني حقاً من أن أراك، وأشهد منك ما يجعلني أرجو موتك قبل موتي…
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.