باكرًا جدًا أعطيته رواية “الطاعون”.
عندما أعادها لي ابتسم بحزن: “الطاعون بعيد عن شوارعنا الطيبة”.
امتدت يده لتداعب جسد القطة المريضة، أحضر لها الماء وأحكم الغطاء على جسدها المريض في محاولة لردع الموت المتربص بها. لم تفلح محاولاته البسيطة لإنقاذها. دفنها قرب البيت وجلس يراقب الدفء الفائض الذي تبعثره يدا الشمس سدى. هز رأسه مرددًا أسئلة بنبرة من لا ينتظر جوابًا: “لماذا لم تمنحها السماء فرصة للدفء؟ القطة المسكينة، أي ذنب اقترفت لتموت باكرًا؟!”.
باكرًا جدًا تعلم أن يقتات على كسرات الخبز الجاف، ويلبس ابتسامة الرضا أمام وجه أمي الحزين ليوقف سيل الخذلان الذي يجتاح قلبها.
عندما حملت حقيبتي ذات صباح ماطر وضع في يدي ورقة صغيرة تحمل أمنيات لم يستطع أن يتلوها على مسمعي. لم تسعفه حنجرته التي ضمرت في غمرة الرطوبة التي تشاركنا بيتنا، حيث أصيبت أصواتنا بالمرض فتعلمنا لغة الصمت باكرًا.
في الطريق إلى مدينة بعيدة، غسلت دموعي حروفه ورددت في نفسي: “هذا هو الطاعون يا أخي ألا تغني حبّك لي كطائر حزين؛ أن تحاول أصواتنا القفز في الضوء ثم لا تلبث أن تقع وتعود هلعةً إلى حناجرنا الرطبة”.
تعثرت ذات صباح بجرذ مريض قرب منزلي فقفزت إلى ذاكرتي كلماته: “الطاعون بعيد عن شوارعنا الطيبة”.
في المساء باغتتني الجرذان على شاشة التلفزيون، جرذ يتكلم، جرذ يغني، جرذ يطلق الرصاص على أصدقائي.
“الجرذان تجتاح مدينتنا”، صرخت بهلع، اعتقدت أني في كابوس، حاولت أن أستيقظ. لامست عيني، كانتا مفتوحتين. نظرت إلى المرآة، رأيتني أحدق ببلاهة إلى نفسي في يقظة مريرة. ارتجفت ذعرًا. أغلقت النوافذ والأبواب وأشعلت الأضواء لأحول دون اقتراب الجرذان التي بالتأكيد تخشى النور.
في رسالة نصية مباغتة قرأت حروف أختي المرتجفة: “تعالي بسرعة “.
تهاوى كل شيء حولي أمام إعصار الكلمات التي نطقت بها أمي وهي تخلع حنجرتها المريضة وترميها أمام قدمي: “لقد أخذوه بعيدًا..”.
شعور مقيت بالذنب نهش ذاكرتي، فالجرذان الميتة خرجت من الرواية وعادت إلى الحياة بوقاحة وهجمت بشراسة على شجرة عمره الصغيرة، وراحت تقضم يقينه الأخضر ببعدها الأزلي عن أزقة مدينتنا الطيبة.
في جحر بعيد حيث يضعون أخي يتدلى ثعبان لئيم من السقف وينفث السم في الوجوه المتداعية المتلاصقة قربه . نبتة الحقيقة كانت تكبر في زاوية الجحر ومع كل ورقة كان شبح يتعرى ويعرض جسده المليء بالبثور أمام عينيه المذهولتين. شبح الخبز اليابس وجثث القطط المسكينة وشبح الطحالب التي ملأت حناجرنا. الجرذان كانت تقتات على كل شيء. ابتسم بحزن: “إنه الطاعون يا أختي.. لم يكن يومًا بعيدًا عن شوارعنا الطيبة.. كنا نربيه تحت أظافرنا”.
في آخر الليل تقضم الجرذان قطعة من روحه وتنام. يملأ الغطيط المكان، بينما تتسع حدقتاه في العتمة ويملؤه شعور شاحب كجثة قطة في يوم مشمس.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.