استيقظ العم (ركان) بعد سبع ساعاتٍ كاملة من النوم العميق، أسرع إلى الحمّام وتبوّل بسهولةٍ لم يعهدها منذ سنواتٍ طوال. جلس على كرسيّ المطبخ يحدّق في البراد، الذي يعرف تماماً ما يحويه، لكنّه اعتاد هذه اللحظة من التأمل كلّ صباح. على عجلٍ ارتدى ملابسه وسحب قبعته الفرنسية من مكانها خلف الباب ومضى مسرعاً.
كان كلّ شيءٍ في الخارج يُثبت أن ما قيل حقيقة فعلاً، لا رصاص ولا قذائف ولا قنابل موقوتة أو أهازيج فرح وشماتة. ينظر الجميع إلى بعضهم، ينتظرون أن يسحب أحدٌ سلاحه كي يبدأ الجري في كلّ الإتجاهات، عبثاً انتظروا أي إشارة على أنّ هذه الحرب الهوجاء لم تنتهِ، لقد انتهت الحرب حقاً! الأربعة الكبار أعلنوا وقفاً لإطلاق النار.
في الخامس من شباط تحديداً، منذ عشر سنوات سقط أول ضحية من عائلة “قفاري”، كان ذلك نتيجة شجار في إحدى الحانات المشهورة في مدينة “المعابد” المطلة على البحر، وكان القَتَلة من عائلة “السيد” على حسب رواية عائلة المغدور به طبعاً، أما رواية الجُناة كانت أن ابن القفاري قد انتهك حرمة أحد بيوت آل السيد ،وما كان من شبّانهم إلا أن وقفوا في صفّ شرف العائلة، واقتصّوا من عديم الأخلاق.
مبهمٌ حتى اللحظة سبب تدخل عائلتي “الحرذون” و”الحجاج” في هذه الحرب وكيف أصبحت رباعية الأطراف، لكن النتيجة كانت أنه، منذ ذلك التاريخ وحتى يوم أمس، قضى نصف شباب المدينة، في ما سمّيت عبر الأيام بحرب الأربعة.
جلس العم (ركان) على الحجر الكبير أمام داره، وراقب وجهاء العائلات الأربع، كلٌّ منهم يمسك علم العائلة ويجرّ خلفه مئات الشبّان إلى الساحة، ثبّت قبّعته الفرنسية، والتحم بالجموع حتى التقوا جميعاً في ساحة الشهداء، خيّم صمتٌ ثقيلٌ أسكت حتى أزيز الرياح، نظر الأتباع الغاضبون إلى أعدائهم ،وكلٌّ تحسّس سلاحه، وانتقى من بين الجموع الوجه الذي سوف يصوّب نحوه إن حصل أي اعتداء. الأعلام الأربعة ترفرف في الساحة، القادة كلهم موجودون والأتباع – بأسلحتهم – على أتم الاستعداد وفق الحاجة. خرج صوت أبو تيسير (كبير آل السيد) كاسراً تبلّد الوقت:
“تفضلوا يا كبار لعندي، اليوم دم شبابنا رح يضل بعروقن”.
بقي شباب عائلة السيد في مواقعهم، بينما استدار أبو تيسير والوجهاء فقط، وبدأت الخطوات المتباطئة نحو منزل أبو تيسير الواقع خلف الساحة فوراً، سرعان ما تبعهم كبار ووجهاء العائلات الأخرى، وبقي الأتباع ينتظرون شلال الدم.
كان العم ركان جالساً على حجرٍ ما، يستمع ويشارك بعض الحياديين بتوقع ما سوف يحدث ،ويشرع في تحليل المعطيات والإشارات.
خرج الكبار الأربعة وقالوا بصوتٍ واحد: اليوم خلصت الحرب. ثم أضاف أبو تيسير: (اللي عندو ثار مع أي حدا ياخذو من رقبتي، بس الحرب خلصت.)
تمتم الجميع، دخل الكبار إلى البيت مرة أخرى تاركين أتباعهم في حيرةٍ من أمرهم، ينظرون إلى بعضهم ويتحدثون بصوتٍ خافت، منهم من شعر بسعادةٍ غامرة ومنهم من أراد لهذا اليوم أن يحمل انتصاراً ما. لم يعلموا ما إذا كان عليهم أن يديروا ظهورهم ويغادروا أم ينتظروا حتى يذهب الأعداء أولاً ،ليتّقوا شرّ خيانةٍ محتملة. كانوا ينظرون كلّ الى عدوّه، يراقبون حتى الأنفاس وحركة النوارس، العم ركان لم يفهم ما يجري أيضاً، هو الذي لا يُحسب على أيّ من الأربعة، لكنّه احتفظ بمكانته نظراً لكبر سنّه وحياديّته. في هذه الأثناء كان الكبار يتفقون على الأمور الحساسة مثل النظام الداخلي لمدينة المعابد وتنظيم التجارة بين العائلات الأربعة مجدداً، كذلك دمج الأتباع ليصبحوا جيشاً واحداً، مدافعين عن مدينتهم التي لابد أن يلتفت لها الأعداء قريباً، طالما أن الإقتتال الداخلي قد انتهى.
اتفق الحاضرون على أن يُكتب البيان الختاميّ موقعاً من الكبار الأربعة ،ويقرأه أبو بسام على أهل المدينة، خرج صوت الأخير (كبير عائلة الحرذون) قائلاً: والعَلَم يا كبار؟
سرعان ما بدأت عيون الحاضرين بالتجوّل في أنحاء الغرفة ذات السقف العالي، حاول أبو بسام أن يقرأ أي رد فعل من وجوه الحاضرين، وشوش كلّ واحدٍ منهم في أذن الجالس إلى جانبه، ثم بدأت تُسمع جملٌ عبثيةٌ من أرجاء الغرفة يقذفها قائلوها بصوتٍ خفيفٍ ,مثل : “ولادنا ماتوا وراه للعَلَم”، “خيرة شبابنا راحت حدو”، “كبيرنا ضل حامل العَلَم لسقط شهيد بمعركة تل الضبع”. تشجّع أبو تيسير ووقف وسط جمع الوجهاء، رفع عصاه عالياً وقال إن عائلته هي الأحق بأن يُعمم علمها على الجميع، نظراً لأن أبناءها يتفوقون عددياً على باقي العائلات. عارضه كبير آل حجاج بعنف، فقد قضى المئات من أتباعه خلف هذه الراية، ولن يتنازل عنها أبداً كرامةً لدمائهم. انتشل أبو بسّام عَلَم عائلته هو الآخر من يد أحد الوجهاء ولوّح به بطريقةٍ هستيريةٍ وهو يصرخ “هذا هو عَلَمنا وعلم الكل”، الوجهاء بدورهم رفعوا أعلامهم ورددوا الأشعار والأغاني.
كان العم ركان يطوف بين الأتباع من كلّ العائلات، يقنعهم بأن يعودوا أدراجهم فقد اتفق الكبار. يمازحهم تارةً ويجادلهم تارةً أخرى. كانوا يحبونه فلم يكن طرفاً في المعارك الماضية، وكان دوماً حاضراً للنُصح ومداواة الجرحى من جميع الأطراف. سُمع طلقٌ ناريٌّ من بيت أبو تيسير، التفت الجميع بحركةٍ آلية، طارت العصافير من على شرفة البيت تماماً كما يحدث في الأفلام. فُتحَ باب البيت وخرجَ أبو بسّام زاحفاً وسط بركةٍ من دمائه، يزحف باليمنى ويحمل العَلَم باليسرى، صرخ بصوتٍ سوف تذكره الأجيال القادمة جيداً “للعَلَم يا رجال”. وما أن أنهى أبو بسام صرخته حتى التفت الأتباع إلى بعضهم، رمى العم ركان جسده على الأرض قبل ثانيةٍ واحدة من بدء المجزرة، لم يسعفه جسده المنهك ليزحف سريعاً لكنّه ظلّ يحرّك يديه وقدميه بإصرارٍ وتصميم، كانت الجثث تتساقط من حوله، يصرخ المتوحشون حوله “للعَلَم .. للعَلَم” مشى فوق جسده كثيرون، تساقطت على رقبته حبالٌ من الدماء، حالةٌ من الذعر سيطرت على مدينة المعابد ولا صوتَ يُسمع في ساحة الشهداء سوى الصراخ، كان حتى أعلى من صوت الرصاص والقنابل.
وصل العم ركان الى بيته أخيراً، مُنهكَ القوى غاضباً كمراهق، سار مسرعاً نحو الحمام يتلفّظ بكلامٍ غير مفهوم، بدأ ينبش سلّة الغسيل كقط، التقط سروالاً داخلياً أبيض اللون وخرج، وقف على الحجر الكبير أمام الباب وشرع يلوّح بالسروال يميناً يساراً، بكى بصمتٍ كما يفعل العجائز عادةً، رفعَ السروال عالياً ليرفرف مع هبات الريح ، مرّت به سيارات الإسعاف، مرّ الرجال حاملين جثث رفاقهم وجرحاهم، مرّ الأطفال مسرعين.. والعم ركان لايزال ثابتاً في مكانه كسارية، يلوّح بسرواله عالياً ويصرخ: للعَلَم .. للعَلَم
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.