وليس الهجر هنا ذلك الانقطاع القسري عن مزاولة الطب بسبب مرضٍ أو حادثٍ، أو انعدام فرصة عمل، ولا الحديث هنا عن الطبيب الذي، لبالغ الأسف، لم يرتقِ إلى نبالة مهنته، ولم يكن طبيباً حكيماً، ولا مداوياً، وربما هجرُه للطب أقلُّ أذىً من استمراره فيه…
السؤال هنا عن الطبيب الحكيم، الناجح، المتقن لمهنته، والذي مهنته قيمةٌ عليا في شخصه، ويحبها وتغلو لديه كما حياته، ويرعاها كأنها حبيبة، ويهبها خُلاصةَ علمه، وتمنحه الشعور بالرضا، وتجعل مرضاه أفرادً من أسرة قلبه مثلما هو حيٌّ في قلوبهم.
هل يستطيع هذا الجرّاح هجر مهنته؟
أعرف كثيرين من حملة الشهادات في الهندسة أو التعليم أو المحاماة، هجروها إلى مجالاتٍ أخرى، ولم يعذّبهم ذلك الحرمان أو الأسف الذي لا يخفى، بينما نادراً ما يفعل الأطباء ذلك.
لا يكاد الطبيب يباشر مهنته، إلا وتتعشّق تحت جلده وتندخل في عظامه. تنشأ بينهما علاقةٌ تبدو للوهلة الأولى غير مفهومةٍ أو لنقل: مستهجنة! مهنةٌ تستملك صاحبها ليل نهار، وتستنزفه دون ذرّةٍ من رحمة، وترهنه للقلق الدائم حتى أثناء نومه، وتراه يذعن لسطوتها ولا يتذمّر…
هل يتخيّل أحدكم ملامح الجراح في غرفة العمليات، تحت الضوء الحارّ والكاشف، وحيث تطنّ أجهزة رصد القلب والتنفس وكيمياء الدم كقفير نحلٍ لا يطيق السكون؟!
لنتخيله يُجري جراحةً نظامية لا تعقيد ولا خطورةَ خاصّة فيها، وربما يكون أجرى مثلها مئات العمليات، ويتابع عمله الآن بهدوءٍ ورويّة، ولا يصادف خلاله أيّ طارئٍ يستدعي منه التحفّز أو تشغيل احتياطيّه الفكريّ أو الجسديّ. ومع ذلك، فلن يكمل عمله، صيفاً أم شتاءً، ووسط تكييفٍ نظاميّ، حتى تكون ثيابه مبلولةً بعرقه. ذلك أن احتياطيّ روحه كلها يكون مستنفراً أثناء الجراحة من غير أن يستدعيه الوعي. ولن يغادره التعرّق إلا بعد أن يصحو مريضه من التخدير، ويصير على سريره بين أهله.
كل هذا ولم يأت الحديث بعد عن الجراحات الخطرة أو الاختلاطات التي قد تهبط كالغول الخرافيّ مفاجئةً وصاعقة…
ماذا عن مناوبات الليل؟ الليل الذي يستحيل كله إلى نهارٍ معجوقٍ بكلّ أشكال التعب، قد لا يتسنّى للمناوب النوم، وقد تأخذه إغفاءةٌ حلوةٌ، لدقائق، على الكرسيّ البلاستيك، ويطلع النهار، وعليه أن يسلم المرضى إلى زميله التالي. قد يغادر وضميره متعلّقٌ بالمريض الأضعف، وقد يراوغ الوقت ليراجع للمرة العشرين خطة العلاج التي وضعها له: هل أغفلَ شيئاً يا ترى؟ ـ يسأل نفسه ـ هل أخطأتُ في وصف دواءٍ ما أو طلب تحليلٍ أو مشورة؟! ويغادر وعيناه مسلوبتان على باب الجناح الذي صار في عهدة غيره، وقد يعاود الاتصال هاتفياً بزميله ليسأله عن حال فلانٍ من المرضى…
ترى هل في الحياة ما يستحق كل هذه الشدة؟!
نعم. سوسة الجراحة تستحق هذه المغامرة اليومية الرهيبة والمتكرّرة.
كل جرحٍ يُحفرُ في الجسد المريض هو أملٌ خالصٌ باسترداد العافية حين لن تستعاد إلا بأناقة المشرط
تُنازع الجرّاحَ رغبةٌ مؤلمةُ بهجر الجراحة حين تفشل على يديه عمليّةٌ معقّدة، أو حين يدهم الموتُ مريضاً كان حاله ينبئ بالموت بينما لم يكن الطبيب يريد أن يصدّق أو يستسلم..
وتنازعه النفس إلى هجر الجراحة حين تستهلك حالات الإسعاف طاقته وصبره، يأخذه الحلم إلى حياةٍ لا يديرها القلق والاستنفار الدائم وسط الشكوى والألم وأمراض الجسد التي لا تنتهي.. يحلم أن يسافر بعقله ووقته بعيداً عن شِدّات الجراحة إلى هوايةٍ طالما شغفته، أو إلى مهنةٍ أخرى أجدى ربحاً وأقلّ عناءً، أو إلى التقاعد عن كل عمل، بغاية الراحة من شقاء أي عمل، أو إلى منصبٍ حكوميٍّ مهيب يغويه بفتح مغاليق الشهرة، والظهور على الشاشات، ويطال من موقعه فيه كل ما تشتهي نفسه….
قد يضعف فيقرر الاعتزال. ويبالغ إذ يقرّر أن يعتزل بتاريخ كذا… لكنه لا يجرؤ أن يبوح بقراره لأحد، وكأنّ قراره هذا جريمةٌ أو نقيصة أو عار. وما إن يقترب التاريخ حتى يجبن ويغير رأيه، أو يُرجئ اعتزاله لغاية انتهاء هذا الشهر، ثم هذه السنة، ثم سنة أخرى، ويظل متأرجحاً بين متاعب المهنة الجسيمة وإغراء الراحة من شجونها، وتظل المهنة تنتصر ما دامت عافيته تسعفه.
الجراحة؛ كأنها لعبة القمار تستحوذ عليه وتغريه بالمتابعة حين يجني في الجولة عافيةً أكيدة، وتغريه بطلب التعويض ورد الخسارة بمحاولةٍ جديدة حين تفشل السابقة، وكأنه على موعدٍ دائمٍ مع انتظار العافية، وعدم الرضا إلا باستعادتها…
كيف إذاً حين تكون الجِراحة نسائيةً، وتكون الكتلة التي ستخرج من البطن مولوداً ليّناً ونابضاً سيأخذ مكانه في عالمنا الأرضيّ ويقلّل من قسوته؟!
وكيف إذاً حين تكون الجرّاحة امرأة؛ أنثى توائم في جوفها كلّ هذا الفصام ما بين رقّة قلبها وحزم يديها؟! ترى هل يمكنها الهبوط من علياء الخلق القريب من روح الله إلى عاديّة التلقّي؟!.
عني أنا؛ كم نويتُ هجران الطب إلى الدنيا الوسيعة، أو إلى مروج الأدب؛
وفي كل ضعفٍ، وعند كل عتبة، أجد كلّ ما فيّ يتنصّر للطبيبة مني..
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.