“كنت هناك وزرت تلك المدينة وأكلت في ذاك المطعم وشربت في تلك الخمّارة، ابن عمي تزوّج سورية وجار حماي سوري وأيضاً ميكانيكي سيارتي جده سوري من حارة اللولو، هل تعرفينها؟ وأنت؟ من أين؟ لقد زرت دمشق مراراً وتعشيت على قمة ذاك الجبل العالي المطل على المدينة و أبهرني منظر الأحياء المضيئة، هل وصلت الحرب منطقتك؟ هل تدمر بيتك؟ عائلتك معك؟ مع أي طرف أنت؟ تعملين؟ تبحثين عن عمل؟ تدرسين؟ تريدين العودة إلى بلادك؟ تحبين لبنان؟ أنت متزوجة؟ لماذا لا تتزوجين لبنانياً؟ نحن طيبون لا نؤذي أحداً، بلادكم كانت جميلة جداً ما الذي فعلمتموه؟ هل أنتم راضون الآن؟”
الأمر نفسه في صالون التجميل وعيادة الطبيب ومحل بيع الأحذية…مواويل وعتابا وأنا على شرودي أحاول استحضار صوت انهمار القذائف ودوي الانفجارات وسلاسل الاشتباكات وضرب الجنود على الباب حتى أمنع نفسي من الانصات إلى الشريط المكرور ذاته كل يوم..
وأسأل نفسي دائما عن الصم السعداء المحظوظين الذين لم يسمعوا شيئاً منذ البداية، لا شيء يعافي الأذن التي أنصتت منذ اليوم الأول للعرس الذي صار جنازة، لا موسيقا عذبة ولا حفيف الشّجر ولا خرير الماء ولا كلمات الحبّ الرقيقة كلّها..
مع الأيّام تعلمت ألا ابتسم عندما يكتشف السّامع هويتي من الألف الصحيحة التي لا يستطيع لساني السوري كسرها مهما اجتهد وتدرّب وأن أتجاهل كل الاسئلة كما لو أن الشمع مسكوب في أذني.
وفي المساء أتقيأ دفعة واحدة كل الإجابات التي ابتلعتها
المطعم هاجر صاحبه إلى أوروبة ما، ورواد الخمارات باتوا يسكرون في منازلهم، حارة اللولو صارت غباره، وأنا من دمشق الحزينة التي زرعوا جبالها بالدبابات التي تحدث في الدم ضجيجاً أكثر من اسئلتك ولو وقفت على سفحه سترى أعمدة الدخان الرمادية تهب مع الرياح وترقص بمجون امرأة وحيدة أمام مرآتها وسيهولك المنظر إلى الحد الذي ستصبح معه غير قادر على أن تحب أي شيء حتى الكلام، وأنا مع طرف أمّي التي زغردت للمظاهرات يوماً بعد يوم وصلّت لنصر الجيش الحر طوال الليل قبل أن تأتي رايات الخلافة وتهجر أمي الصلاة. الحرب أكلت منطقتي كحال المناطق أجمعين بساكنيها وشوارعها ومبانيها، وأعمل في النكران كل يوم، وأنا أدرس نعم، اختصاصي فنّ التجاهل والشرود في محو عديمي الإحساس من الوجود، وأريد العودة طبعاً حالي كحال الجميع إلى البلد التّي نستطيع أن نشتهي الحياة فيها لا تلك التي يسيل لعاب موتها الشره علينا كقوالب الحلوى. وأحبّ لبنان لولا أمثالك، ويوماً ما قد أتزوج رجلاً سورياً جداً يحسد الصمّ ويلبنن حروفه ويتقيأ أجوبته ليلاً ونحكي لأطفالنا عن سائقي سيارات الأجرة المزعجين في بيروت.
فرن الشباك
“فرن الشبّاك؟” أنحني على النافذة ويهز السائق رأسه هزّة الموافق، أجلس في الكرسي المجاور له تجنبّاً للاحتجاز الذي قد تسببه حركة صعود ونزول الركاب فأجد نفسي محتجزة في مكان أسوأ، فضوله ورغبته بالثرثرة، “سورّية؟” أبتسم ابتسامة النّعم فيتنحنح كمغنٍ محترف ويطلق موّاله الذي كنت قد سمعته آلاف المرات يوم غادرت بيروت..
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.