إنّه الآن يذكر كلّ شيء. لقد مرّت على الحادثة سنوات طويلة لكنّه يذكر كلّ التّفاصيل.
كان صيف سنة 73. لم يكن وحده، كان معه أخوه الذّي يكبره بتسعة أعوام وثلاثة من أبناء عمومته. وكانوا كلّهم يفركون السّاعات بملل شديد بعدما أغلقت المدراس أبوابها وبدأت العطلة.
كان الصّيف يرتبط في ذهنه وفي أذهان كلّ الذّين من جيله بالحرب. لقد مرّت ستّ سنوات منذ أن رأى والده يهيّء السّم ليصبّه في معدته بجرعة واحدة إن أجبره الإحتلال على ترك أرضه. كان وقتها قد أتمّ عامه الثّاني عشر وكان يفهم كلّ ما يجري. كان يعرف أنّ والده ليس من النّوع الذّي يقبل أن يحلّ به ما حلّ بمعظم أهالي أرض ال48 كما صاروا يطلقون عليهم. وكان قد لاحظ أنّ والده من القليلين الذَين بعد أن يلتصقوا بالرّاديو أثناء خطابات جمال عبد النّاصر، لم يكونوا يتحمّسون أو يصفّقون.
ثمّ رأى وسمع القنابل تقع قريبًا منهم. احتمت عائلته وقتها في قرية مجاورة وعادت حين انتهت الحرب وابتلعت اسرائيل ما أجّلت ابتلاعه قبل عشرين سنة.
وهكذا، كان الإحتلال يتخلّل حياته منذ البدء ويغيّر طعم الوقت والأشياء. إذ منذُ آخر مرّة رأى فيها ذلك الجنديّ العربيّ الذّي يضع بندقيّته على الأرض ليحتسي الشّاي وهو يكرّر بلهجة بدويّة أنّ الأوامر بالقتال لم تصله بعد، وبعد أن قضمت اسرائيل الضّفة الغربيّة قضمة واحدة، بدأت مرحلة جديدة لم يكن لأحد أن يعرف متى وكيف ستنتهي. سنة تلو الأُخرى، كانت هذه الحالة الإستثنائيّة التّي وضعهم فيها الإحتلال تستمرّ وتتمدّد. لقد استأنف الكلّ حياتهم لكنهم كانوا جميعًا يشعرون أنّهم يعيشون وضعًا طارئًا كان يزداد ثقلاً في كلّ ذكرى جديدة للهزيمة الأخيرة. لقد كان الإحتلال مرضًا شوّه الجسد بينما لا يزال شيءٌ ما في الدّاخل يرفضه ويلفظه. ورغم أنّه كان صبيًّا فتيًّا وقتها إلاّ أنّه كان قد حصّل من الوعي ما جعله يشعر مبكّرًا بذلك كلّه.
لا زال يذكر كلّ شيء ويضحك. كانت زيارة الأراضي التّي احتلّتها اسرائيل عام 48 قد أصبحت إحدى هواياتهم، هو وأخاه وأبناء عمومته الثّلاثة، فالعبور إليها سهلٌ من دون رقابة أو حواجز. كانت تلك المستوطنة تقع على مشارف طولكرم، مقابل قرية رتاح، بين الطّيرة والطّيبة تمامًا. شيءٌ ما كان يشدّهم إليها، ربّما قربُها أو ربّما معرفتهم المسبقة بأنّ معظم المستوطنين بها من يهود اليمن.
أن يسرق أحدٌ أرضك أمرٌ شنيع، ولكن أن يكون هذا السّارق عربيّاً مثلك فهو فوق البشاعة والوقاحة، أمرٌ مستفزّ. وخلال أيّام لم تكن ثمّة أمامهم إلاّ فكرة واحدة حاسمة: لا بدّ من الذّهاب إلى المستوطنة.
كانوا قد تعلّموا العبريّة قليلاً بعد أن أصبحت مادّة في منهاج المدرسة، وكانت تلك الدّروس تكفي ليعرفوا أنّ “عافودا” تعني “شغل”. وهكذا راحوا يلقونها كالتّحيّة على كلّ من اعترضهم من سكّان المستوطنة. لم يكن أحدٌ منهم يحتاج إلى العمل حقيقة، ولو أرادوا أن يشتغلوا فعلاً لكانت أيديهم مشغولة بتراب أرضهم في طولكرم، لكن تلك كانت طريقتهم في تبرير وجودهم في المستوطنة اليهوديّة.
ثمّ جاء سلمان، يمنيّ الملامح واللّهجة الذّي عرّفهم على إسمه دون أن يطلب أسماءهم واكتفى بأن كلّفهم بتعشيب الأرض التّي صارت، ﻷنّ العالم قَبِل ذلك، أرضه. لقد كانت مزحة في البداية إلى أن وجدوا أنفسهم أمام هكتار من نبتات الفستق والأعشاب الطفيليّة. هذا السّلمان يريد أن يُنقذ محصوله من الفستق وعليهم أن يفعلوا ذلك من أجله. لقد كانت مزحة سمجة وثقيلة.
تحت شمس حزيران القويّة، انتشروا بين الشّجيرات، في أيديهم فؤوس صغيرة وتحت أقدامهم هذه الأرض التّي كان كلّ واحد منهم يعرف، دون مجهود أو تخمين كبيرين، أنّ صاحبها الحقيقيّ يقبع الآن في أحد المخيّمات إن لم يكن قد استشهد، وأنّه في كل لحظة حين يتذكّرها، تخنقه غصّة الضّياع والفقد، وأنّه قد يبكي في اللّيل كطفل يريد الرّجوع إلى أمّه بعد أن تاه عنها في الزّحام.
إنّه يذكر كيف كان ينظر في عينيّ أخيه ويرى ذلك كلّه، ثمّ يواصلان التّعشيب صامتين، بينما كان، من بين الشّجرات، يُسمع صوت حشرات الصّيف الزّنانة.
على مدى ثلاثة أيّام، كانوا يشتغلون حتّى السّاعة الثّانية ظهرًا ثمّ يرجعون إلى بيوتهم. وفي طريق العودة، كان كلّ واحدٍ منهم يشعر أنّ الأمر قد بدأ يصبح مملاًّ وأنّه لابدّ من اتّخاذ قرارٍ ما. لكنهم لم يعرفوا ما عليهم فعله تحديدًا إلى أن جاءهم سلمان صباح اليوم الرّابع. أعطى لكلّ واحدٍ منهم أُجرته على أن يكملوا التّعشيب حتّى السّاعة الثّانية كالمعتاد ويزوروه في الأشهر القادمة للعمل عنده من جديد. لقد اشتغلوا في هذه الأرض كمن يشتغل في بيّارته الخاصّة. كان من السّهل على سلمان أن يستنتج أنّ الشّبّان الخمسة قد شبّوا على الفلاحة منذ الصّغر فنالوا سريعًا إعجابه وثقته.
أيّتها التّفاصيل اللّعينة! إنّك تلتصقين بجدار الذّاكرة ولم يسقطك عنه شيء. إنّه يذكرك كاملة. سافر إلى رومانيا ودرس الطبّ، انخرط في العمل الطلابيّ وتخرّج، تدرّب في معسكرات بيروت وسافر إلى تونس، أحبّ وتزوّج، صار أبًا وجَدًّا، بقي منفيّاً وبعيدًا، وها هو يحارب السّكريّ بعناد وصبر. كلّ هذا العمر يا الله ولايزال يذكر تلك الرّائحة التّي كان يهيّجها لفح الصّيف، خليط من رائحة التّراب و أوراق الفستق والعشب. إنّه يذكر كيف، حين أدار سلمان ظهره وتركهم ليواصلوا التّعشيب، عرفوا الخمسة أنّ الوقت قد حان للقيام بشيء ما. أخذ كلّ واحدٍ فيهم فأسه بين يديه وبضربة خفيفة على ساق شجيرة الفستق الهشّة، كانت تنكسر وتهوي. خلال ساعة واحدة، كان هكتار من شجيرات الفستق قد أصبح مجرّد سيقان مكسورة لا تصلح لشيء. لقد أنهوا حصاد الفستق مبكّراً ووضعوا حسابات سلمان في الماء.
يذكر كيف عادوا في هدوء حتّى لا يثيروا حفيظة أحدٍ. لم يضحكوا، لم يقولوا شيئًا، لكن كان كلّ واحدٍ فيهم يسمع وجيب قلبه يضرب في جسده. وحين وصلوا إلى طولكرم، وعند أوّل دكّان مفتوح، توقّفوا ليشتروا مشروباً باردًا وقهقهوا ملء قلوبهم وهم يضربون الكفّ بالكفّ.
لم يكونوا مقاتلين، كانوا مجرّد صبيان في طور النّشأة، لكن تلك كانت طريقتهم في صفع الإحتلال، وفي الإحتفال بانتصارهم وعودتهم إلى قواعدهم سالمين.
لا زال يضحك وهو يذكر كلّ ذلك.. ويبكي.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.