من المفيد معرفة أن أحد معاني كلمة بيسوّا بالبرتغالية هو: “لا أحد”.
لتدرك إن المكان قد فرغ، كنت أقف على بابه، أراقب وجهه المطمئن، وشاربه الدقيق، قبعته السوداء، ومعطفه السميك، علبة لفافات تبغه، وعصاه الطويلة.
فأسمع صوتا يسألني من أنت يا هذا؟ أتلفت فأجد عيني بيسوّا تحدق بي.
اسمي فادي عزام يا سيدي، جئت إليكم لأعرفكم على شاعر اسمه رياض الصالح الحسين، وأود أن أسمعك بعضا من قصائده.
يخرج الصوت سؤالي: من أنت؟ من أنت؟
كما أقول لك أحاول أن أجمع بعضا من أشقاء الحبر، شعراء وكتاب من كل مكان في هذا العالم فهذه العائلة هي العائلة الوحيدة التي أشعر أني أنتمي لها.
يعاود السؤال ملحا صارما .. من أنت؟
أنا … يا إلهي ..أنا .. أنا ؟؟؟
من أنا؟
أنا الرقم في حواسيب البنوك وأجهزة المخابرات، أنا الزبون لدى تجار الحياة، أنا اللاشيء الذي يشغل حيزه على الكرسي، أنا الغريب أينما حل.
أنا العطش الذي يفور بالينابيع، المبهم الذي يعرفه الجميع. المارثوني الذي ما زال يركض خوفا من الافتراس، الناجي من مجزرة الوطن، والشاهد الملك على جريمة اغتيال حياتي. الصدى لموتى يجوبون الفراغ بقلوب تنزف بالحنين، رفيق الأشباح الهامسة وهي تخرمش أظافر النور على جدار المقابر التي تسمى بيوتا.
أنا اللا أحد لا أثر لي إلا على الرمل، خطوتي كلما دعست انمحت، أنا المعطر بكل أنواع الجرائم ولم أقتل أحدا حتى الآن، جسدي تفترسه قطعان ذكريات الآخرين.
أنا الرجل بلحية لم تحلق بشفرة منذ عشرين عاما خوفا من أن أفقد التوازن وأقع للخلف.
أنا المنهوي من شاهق وكلما وصلت هويت.
أنا المجعلك مثل أوكورديون قديم يكفي أن تلمسني يد خفيفة لأعزف.
أنا الظهر الذي يعشق الطعن بالسكاكين الشقيقة.
أنا كل الهجرات السامية إلى رافدي جسد الحبيبية.
أنا الرحال إلى أغوار النسوغ التي تمدني بالقدرة على الافتراس.
أنا المدان قبل أن أفعل شيئا، والبريء الذي سبب الأذى للعشرات من دون أن يرف له قلب.
أنا المشكك بالحواس الواثق من الحلم المؤمن بالغيب، المكلف بأمر وحي روحي بتوزيع النبوءة على جسدي.
أنا مستكشف التضاريس الحميمية في بحيرة السرة ومثلث الموت تحت إبطي الحبيبة.
أنا حفار القبور الذي أقلق راحة الشعراء ونكش جثثهم واستغل موتهم لأفهم بعضا من معاني حياتي.
أنا القرميدة المشوية على السطح أعالي المنازل، أرقب المدينة والسياح وأترقب التقاط إشارة غامضة من الغيب لأكتشف أن الحياة صالحة في مكان أخر ولكن نحن غير الصالحين.
أنا الصديق الذي يرقب براءة أصدقائه كيف تذبح كل يوم في أروقة الوحدة والخوف والهروب.
أنا المدان بجريرة الصدق، أنا المتهم من الأقربين بالكذب والكسل، أنا المتوهم الشديد الواقعية. أغني ليلة عيد كطفل لم يبلغ الرابعة كلما اشتهى جسد امرأة.
أنا السوري الهارب من بلدي إلى بلاد هاربة مني. أنا اللاجئ الذي لا يعرف ماذا اقترف ليستحق كل هذه الأوراق كي يمنحوه حق اللجوء!
أنا القارئ النهم أجهل أبجديات الإتيكيت. أنا الذي سيدخل النار لأنه رمى بقطة من الطابق الرابع، وسرق من جيب أبيه عشر ليرات، وخان أعز أصدقائه واشتهى زوجات كثيرات، تحدث كثيرا بعكس ما تأمره رغباته.
أنا العاشق الذي لا يعرف كيف يحب، واللئيم الذي لا يعرف كيف يكره، لكني بصقت في كأس الشاي لمن أزعجني، وقرأت كتاب السحر الأسود بجدية كاملة، لأنتقم ممن سرقني.
أنا العربي المصاب بأعذب الشعر، أعجن لغة العرب بماء الذهب وأعجز عن إعراب
“أكلوني البراغيث”
مازلت كما خلقني الله عاريا، صارخا أحتاج الرعاية والثدي وتنظيم الأوقات والاغتسال والإسهاب في اللعنة.
أنا عاشق لهذه الحياة، مبتكر أشهى شتائمها الطازجة، منصت لمكامن أوجاعها، أصيخ السمع لوقع ندف الثلج على الأرض، ولانسراب الشعاع على مهل فوق بركة فتنتة امرأة طافت بالفتنة والتجربة ومازالت تحمل من الماغما ما يكفي لتدمير أربعين بومبي.
أنا الفضيحة بثياب فاخرة، لا أتقن الاعتناء بثيابي فدائما هنالك طرشة حبر لا أعرف كيف تظهر على جيوبي.
أنا المعجزة التي لم يتم الانتباه إليها. المعجزات دائما موجودة، مكتشفو المعجزات رعاة الخيال، حادوا الذكاء، تم حبسهم في قصور السراب. وأثق أن ذكيا ما سيكتشفني يوما.
أنا الذي يحب النساء الأقل جمالا لأنهن الأكثر كمالا في الفراش.
أحب البساطة بكل شيء ما عدا الجسد والنبيذ والكلمات.
أحب البلد الذي أنهكني وسرق شبابي وأسلمني إلى مدن العالم كي أبحث عنه.
أحب الحقيقة وأكذب كما أتنفس.
أنا الذي يكتب الآن بجوار مشفى شهد موت بيسوّا في لشبونة، بدل أن يذهب لرؤية الآثار التي لا يفهم منها شيئا.
رفعت رأسي عن الدفتر أوقفت التدفق … يا إلهي إياك أن تسأل أحدا ما من أنت؟ ربما يقضي عمره كله وهو يكتب الكارثة التي تبدأ ب (أنا).
وهنا فهمت لماذا كتب بيسوّا باسم 72 كاتبا مختلفا ولم يكفه.
ببساطة لأن أحدا ما سأله يوما من أنت؟ وهذا سؤال ساذج مطروح دائما ولكن المغامرة الفذة فعلا والكارثية والمدهشة أن يكتشف هذا السر ويشاركه للأحياء.
إنه سر خاص بالأموات لا غير، إنه سر يهتك حياة من يحاول البوح عن إجابة عنه.
لكنه ممنوح للجميع بكل رضى في تلك اللحظة التي يتخلص بها من كثافة الجسد وعوامل الفيزياء والكيمياء ويقف ليودع النفس الأخير ويذهب إلى هناك ليتعرف على نفسه.
آه .. ماذا بعد الحياة؟
للأسف لم يأت أحد من هناك ليخبرنا، ربما لأن المكان هناك رائع لدرجة لا تصدق فينسانا الأموات. أو لأنه خازوق لدرجة تجعل من الأموات لؤماء ويريدون من الجميع أن ينالوا خيبة هذه التجربة حيث لا شيء ينتظر الجميع. والصالحون منهم يركضون بيننا محذرين شاتمين صائحين بنا، انتبهوا، عيشوا، لا تفرطوا بالحياة، فنطردهم بالبسملات ورسم إشارات الصليب العظيم ونعمي أبصارنا عنهم ونحولهم إلى أشباح. ثم نتفرغ لتضيع حياتنا بجمع المال وجمع التحف وجمع العلاقات والأصدقاء ونتوج أنفسنا ملوكا على مملكة النفاق والوحدة.
أجابني بيسوّا هكذا إذن، وأردف أمامك طريق طويل للنهاية.
قلت له: ما أوضح الطريق وما أكثر المفارق.
همس لي: قلت لي ما اسم شاعرك الذي جئت به إلي.
– إنه رياض صالح الحسين.
– طيب أخبرني كيف كتب عن الموت.
– في بداية ديوانه الأول، يفتتح قصيدة للشاعرة المنتحرة سيلافا بلاث
الموت!
فن مثل أي شيء آخر وأنا أتقنه تماما.
-لا ترتكب الأخطاء ذاتها، الموت فعل شديد الوضوح أخبرني كيف كتبه هو.
– معك حق عزيزي بيسوّا.
استمع إلى هذه:
كم هي لذيذة
الموتى الذين ماتوا
في الحروب والأوبئة
في السجون والطرقات
الموتى الذين ماتوا
بالخنجر والرصاص والديناميت
بالفأس وحبل المشنقة
الموتى الجميلون
ذوو الأسنان البالية
والوجوه الناتئة
تذكروا وهم في قبورهم
ضوء القمر وخضرة المراعي
تذكروا أنهم لم يعيشوا كما ينبغي
لم ينتبهوا إلى الأصوات والألوان
تذكروا:
كم قبلة أضاعوا
كم ضوءا أغمضوا عيونهم كيلا يروه
كم زهرة لم يزرعوا
كم كلمة طيبة لم يقولوها
الموتى عرفوا
ربما للمرة الأخيرة
كم هي لذيذة حياة الأحياء
-ما زلت بعيدا عما أريد، أنت تحدثني عن رأيه بالموتى أريد أن أعرف كيف كتب شاعرك رياد الموت.
– قصدك رياض ..
– نعم رياد هذا الحرف الأخير في اسمه .. أول مرة أسمع به.
– إنها العربية التي تعتز بلسان الضاد لا تحاول نطقه لأنه من المستحيل عليك أن تفعل ذلك.
أما ما طلبته فاعتقد أنني بت أفهم عليك ما رأيك بهذه:
خنجر أبيض
في الصيف
كان ثمة صبية شقية بعينين صاخبتين
التقت بي في قطار التاريخ
وأعطتني كتابا وإصبعا من الموز
بعد أن نظرت بخوف إلى الرجل الضخم
وهو يداعب فوهة مسدسه البارد في جيب سترته
وحينما طلبت منها أن تعطيني عنوانها
قالت: لا بأس
ومصت إبهامها اللذيذ وفكرت
ثم كتبت شيئا ما على ورقة صغيرة.
في الشتاء
حينما ذهبت إلى المقهى لأراها
كان وجهها أصفر وعيناها رماديتين
و في ظهرها خنجر أبيض
تتراكض عليه العصافير
-لم أجد موتا هنا يا هذا .. حدثني أكثر
-حاضر يا سيد بيسوّا ..
أود أن أقول لك أنه في دواوينه الأربعة، ذكر الموت والقبر 131 مرة وذكر كلمة الحب 190 مرة وكلمة القبلة 69 مرة.
ومنه أقطف لك هذا النص.
إنني أرقص دائما
و أنظر إلى الخناجر التي تغوص في اللحم
و على شفتي ابتسامة من نوع ما
لقد تذكرت البارحة أغنية لطيفة
أغنية وقطيعا من الصخور
أغنية وبحرا هائجا كثور
أغنية ورجلا ميتا
ينظر إلى الأفق بعينين جاحظتين
أغنية … ورقصت
كانت أطواري غريبة
فلم أغلق عيني الرجل بهدوء وحزن
كما يفعلون في الأفلام
لكني تساءلت:
لماذا يموت الرجال هنا وهم ينظرون إلى الأفق؟
لم يحبني أحد
لم تحبني سوى أغنية وقطيع من الصخور
فمددت كفي إلى عيني
-عيني اللتين تنظران إلى الأفق-
و أغلقتهما بهدوء
كان يجب أن أحزن وأتألم
كما يفعلون في الأفلام
لكني رقصت
إنني أرقص دائما
-أه هذا شيء جيد سأذكر شاعرك وأحاول حين أصل إلى هناك، أن أبحث عنه.
-والآن علي أن أتمنى لك رحلة موفقة يا فرناندو وأقول لك كما يقول شاعري الصغير الذي مات أيضا في مشفى وهو دون الثامنة والعشرين:
أنت اخلع عنك الحياة وأذهب بصراحة إلى الموت
الموت يا عزيزي سمكة لن تقبض عليها
إلا إذا كانت يداك جافتين
و مشاعرك حافية
وهنا سمعت بيسوّا يردد، مشاعرك حافية، نعم مشاعرك حافية .. مشاعرك ….
وغاب كل شيء.
—————————————————————-
النص من كتاب (رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء ميتين) تحت الطبع
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.