نادراً ما أسمح لنفسي بحلمٍ عفويّ، فكلّ أحلامي مرتبةٌ ضمن قائمة أحضرها بشكلٍ دوريّ، ثمّة أحلامٌ قديمة مازالت مدسوسة في قعر الذاكرة، أحياناً أخرجها، وأنفض الغبار عنها لأرتديها ذات ليل هادئ..
حتّى الكابوس وكلّ ما يحتويه من تفاصيل مزعجة، كان له وقته الذي أحدده أنا عندما أودّ أن أعاقبني مثلاً، وحدها ردّة فعلي تجاهه كانت عفوية، رغم معرفتي المسبقة به.
أفتح خزانة الذاكرة، وأختار للحلم مكانه، مقاسه، زمانه، وأبطاله.. أحياناً كنت أخرجني من حلمي، وأتركني محض متفرج على تلك الشخصيات التي اخترتها أبطالاً لذاك الحلم، لا أنكر أنّها كانت تفاجئني، فتمدّ أياديها إليّ وتجبرني على التدخل في الحلم..
مرّة سحبتني جدتي من ركني المعتم في حلم جمعها مع جدي الذي لا أعرفه، ولكنها أجبرتني على تقبيل يديه، وقام هو بالمقابل بوضع عقد من الذهب في رقبتي، على الرغم من إعجابي بذلك العقد، فإنّ والدتي قالت: الذهب في الحلم تعب! لا أدري كيف تسلل الذهب/التعب إلى حلمي، على الرغم من كرهي له في الواقع..
نادرة تلك الحوادث التي اقتادني فيها الحلم صوب ما يريد هو.. وكنت قلّما ما أصحو مستاءة منه.. أو غير واعية بما حدث فيه! ::
أستيقظ الآن من حلمٍ مفاجئ.. لم أعد منذ الحرب قادرةً على توضيب الأحلام كما كنت أفعل مهارتي في الاختيار فقدتها، كما فقدت عدداً كبيراً ممن أحبّهم، مع أنني اليوم بحاجة ماسة لتلك القدرة العجيبة، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى..
مرةً نجحت في اختيار الحلم، ولكن بعد طقوسٍ متعبةٍ ومرهقةٍ، فقد منعت نفسي من فنجان قهوة آخر الليل، واستبدلت به كوباً من الأعشاب الزهرية، قليلاً من البابونج وبعض وريقات من الحبق، زهرتي أقحوان، و وريقات من إكليل الجبل، وقليلاً من الختمية والنعنع، وبعض أزهار برية، لم أحفظ أسماءها جميعاً، لست كجدتي ماهرةً في معرفة روح تلك النباتات..
شربت ذلك الكوب مع ملعقة من العسل وحبة البركة، خليط عجائبي بنكهة ورائحة مثيرة للقلق، لكنها بجميع الأحوال رائحة زكية.. لم أستسغه مباشرة، لكنه جرى في حلقي بعدها بسهولة، وربّما بدفقة ممتعة لدرجة لم ألحظ معها الرصاصة الطائشة التي اخترقت سور الحديقة وهوت أرضاً، إلى أن قال لي أخي: لقد كدت تقتلين، يبدو أنّ هذه الأعشاب التي تشربينها مسكرة!
بعدها وضعت قطناً في أذنيّ، واستسلمت لنوم طويل لا حلم فيه، كدت أصحو على خيبة اللاحلم، وهذا النوم الطويل الهادئ، لولا أنّ من خططت للقائه، قد فتح بوابة قلبي في اللحظة الفاصلة قبل الصحو، دخل الحلم، وأمسك يدي، ودعاني لرقصة فالس، كنت قد تدربت عليها طويلاً لمثل هذه اللحظة، كان الانسجام سيّد الحلم، لولا أني دست على قدمه، واستيقظت..
على الرغم من عدم إتمام الحلم، وخروجي المبكر منه، إلا أنني شعرت بالفرح لنجاحي في اختيار الحلم مجدداً..!
“” مرّ شهر على تلك الحادثة، ومازلت أخطط كلّ أسبوع لإكمال الحلم الذي بدأته، أسعى للاعتذار منه، والهروب من حلبة الرقص ليتبعني نحو حديقة بيتنا، لنحتسي القهوة معاً، ونكمل حديثنا الأخير الذي انتهى بخلاف مازال مستمراً حول تسمية ما نعيشه الآن، حرباً أم ثورةً أم أزمة، كنت أصرّ على مفردة حرب، بينما كان مصراً على أنّها مازالت ثورة.. مازلت رغم خوفي الكبير أضع له قلباً كبيراً على ما يكتبه في الفيس بوك، لكنني أعلّق بما يزعجه، فأنتشي لخلاف يدفعه لدخول الغرفة الداخلية والنقاش الذي ينتهي دوماً بقبلةٍ افتراضية، ودعوة للعشاء أو فنجان قهوة قرب القلعة!
لكنّ قبلتنا الافتراضية سقطت في آخر خلاف خارجاً، ولم يعد لها حضور في زخم غضبه العارم، تركت له قلباً معلقاً، ولم يفتح باب الغرفة لاستلامه..
أحتاج أن أكمل الحلم، أحتاج أن أعيش معه حلماً خاصاً لأذهب وأقصه عليه، علّي بهذا أكسر جليد المسافة بيننا..
يااااا للحرب.. هذه اللعينة تقتنص كلّ محاولاتي لترتيب لقاء خارج حضورها، في محاولتي الأخيرة لإكمال الحلم اهتزت الأرض، ومالت حلبة الرقص بنا، وسقطتُ أرضاً، فصحوت لأجدني على الأرض، وقد سقطت من الأرجوحة، والغبار يملؤني، وأمي تردد: مجنونة، كيف تنامين هنا في الحديقة، ماذا لو قتلت بشظية!؟
أسحب وسادتي وخيبتي تمدّ لسانها لي، وأنا أجيبها: عمر الشقي بقي يا أمي.. لا تخافي! “”
صوته هذا الصباح كان ميناء سلام، حملني من خيبتي، وزرعني في الغمام، قال: عرفت بشأن ما حدث البارحة في بيتكم، سلامتك حبيبتي، هل أنت بخير!؟ أجبته: لا شيء لا شيء مهم، شكراً لذلك الصاروخ فقد حمل صوتك إلي! ضحك تلك الضحكة التي تسكرني، ثمّ قال: تعلمي الرقص قبل أن تصري على دعوتي إلى حلم دست فيه على قدمي ألف مرّة! أجبته: وما أدراك بحلمي.. هل بتّ تتسلل إلى الأحلام أيضاً، وتتابع تفاصيلها..!؟ ضحك وقال: أراك الليلة، ولكن تدربي أكثر! جنّ جنوني، فبين نشوة حضوره الصباحي، ومفاجأة معرفته بحلمي بتّ مهووسة أبحث عن الأسباب حيناً، وأدور في فلك راقص حيناً آخر، أفتح خزانتي أختار ثوباً طويلاً، وأرتديه لأتدرب كما طلب مني، ومازالت الأسئلة تنخر فرحي.. كيف له أن يعرف أحلامي.. علبة الأحلام خاصتي لم أطلع عليها أحداً!
اللعنة على هذه الحرب، لا ريب هي اللعينة قد تسللت إليه في غفلة مني، ووشت له، وأخبرته بإحداثيات حلمي، وقد تقبّلها منها بحب، أليست في قلبه ثورة! “” لم أسأله عن كيفيّة معرفته بحلمي، مع أنّ الفضول كاد يقتلني، رحت أحدثه بتفاصيل كثيرة، أخبره عن حلب التي أنتظر أن تجمعني به في حضنها، أن تضمنا معاً في عناق أبدي، رحت أسرد عليه كيف تحولت مناطق كاملة إلى خراب، أحدثه عن بؤر الحرب المنتشرة.. أخبره وأخبره، والطائرة التي تزرع الموت لا تفارق الفضاء، حدثته عنها، وعن قلقي على عمي وأولاده الصغار في تلك المنطقة التي تقصف، وأخبرته عن تلك القذيفة التي سقطت بالقرب مني وأنا عائدة إلى البيت، فارتددت خوفاً منها نحو شاب استغل الموقف، واحتضنني بقوة، ذلك اللعين، لولا رائحته المزعجة كنت نسيت نفسي في حضنه، وضحكت.. لأتلقى صفعة غياب مفاجئ منه، أدت إلى انطفاء الأخضر لتظهر عبارة “آخر ظهور منذ سبع دقائق” اللعنة، يبدو أنني أزعجته حقاً..
رحت أتسلل كلّ بضع دقائق لأجد أنّ تلك العبارة تزيد لتصل الساعتين، شعرت بالسأم وأنا أنتظر، أرسلت له رسالة على جواله، لم يجب، وغفوت في حرّ سريري هذه المرّة.. تكرر الحلم مرّة أخرى، وانتهى حيث أراد، ولم أفلح في تجنب قدمه، ودستها مجدداً، صحوت والحر يدوس جسدي بسياط لئيمة، وغفوت مجدداً، ودست قدمه، ومرة ومرة.. كدت أختنق، سئمت هذا الحلم الغبي، سئمتني، غسلت وجهي، وأعددت كوباً كبيراً من القهوة، وفتحت علبة الأحلام.. “”
رسالة صوتية صباحية منه: في المرة القادمة إن زارتك قذيفة تقدمي نحوها، أهون من أن تقعي في حضن رجل غيري! لا تخافي حبيبتي، لن تجرؤ على الاقتراب منك.. فأنت محصنة بحبي.. سأكون في حلب نهاية الأسبوع، أعدي نفسك وتدربي على رقصتنا.. دخلت في دوامة من فرح وقلق، عن أيّ حلب يتحدث ذلك الأحمق!؟ حلب ليست مدينة تزار على عجل، ليست مكاناً يمكن ارتياده كعطلة..! من يحتاج لعطلة من السلام ليعيش الحرب معنا، أيّ مجنون هو!؟ “”
غداً موعدنا، ومازلت أتعثر وأدوس قدمه في ذلك الحلم اللعين، هذه الليلة سأحلم به خالصاً من شوائب تلك الرقصة، سأحضرني للقاء تحت عريشة ياسمين، فزهرها في هذه الأيام يسور روحي بالأمان.. نعم.. الياسمين.. لم لم أفكر به!؟ سأضيفه الليلة لخلطتي السرية، وأظنني سأنجح في رؤياي هذه الليلة.
رتبت كلّ شيء.. نفيت القهوة منذ السابعة، وشربت ذلك المزيج العجائبي الذي حضرته، واغتنمت فرصة نوم أمي باكراً لأغفو على الأرجوحة في الحديقة، ربّما بعض الهواء سيسرب لي سكينة النوم، وسيغري ذلك الحلم المعلّق بين علبة الأحلام وقلبي.. بالسقوط أخيراً في دائرة اللاوعي حلماً! “” ياسمينة كريمة جداً تلك التي مدت عناقيدها وعانقتني عطراً، لم يكن لنجومها ذلك الانحناء الذي بات يشوب ياسمين حلب هذه الأيام، كانت ساطعة ببياضها يسكنها في المنتصف بعض حمرة، مدّ كلتا يديه، وأخذ يقطف منها، كانت تستجيب له، بل وكأنها كانت تهوي في يديه، كان كلّما جمع حفنةً منها، يسكبها على جسدي، ليسقط كلّ ما أرتديه، وأغدو عاريةً إلا من بعض ياسمينات، أو كثيرٍ منهنّ، لم أشعر بالخجل، بل كنت مرتاحة وسعيدةً بحلتي الجديدة، وبيديه اللتين تعيدان تشكيلي، بدأت أنفاسه تسهم في العملية أيضاً، وبدأ جسدي يستجيب لقبلات أنفاسه ويديه بارتعاشات من خوف وشوق وشغف.
كاد قلبي يقفز مني، عندما وجدتني عاريةَ حتى من الياسمين بالقرب منه، وما بيننا من مسافة لم يكن أكبر من تنهيدة ورعشة! ابتسامته حلّت أخيراً لتكون ختاماً لحلمٍ رسمته، فتجاوزني جرأة وجمالاً.. ظهر صوتي أخيراً، وسألته: لم تخبرني، ما أدراك بحلم الرقصة، وأنني دست قدمك مرات، ضحك طويلاً وقال: إنّه حلمي أيضاً..ألم نكتبها تلك الأحلام معاً عندما كنا صغارا!؟ “” لم تكن الياسمينة الشهيدة الوحيدة في ذلك الحلم، بل كان صوته الذي خرج منه لاهثاً، وسقط على مسافةٍ قريبة مذبوحاً بسكين مسنون، وجثتي كانت هناك أيضاً، بكامل أناقتها، معلّقة بالقرب من جسده على كتف تينة عتيقة! وحده صوتي المبحوح مازال هنا، خارجاً من الحلم، وهو يصرخ باسمه مرات ومرات، مذبوحاً مثلي بالحرب التي كانت أقرب من قذيفة عابرة. جسدي الجثة، مازال يمارس حياته، بينما غادرتني روحي، لتبقى معه، مذ أخبرني أحدهم أنّ ذلك الذي وعدني صوته بزيارة لحلب.. ضاع جسده المذبوح في مكان ما من حلب!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.