.
لم يستطع أحد أن يقنع الصغير (م)، الذي لم يتجاوز الثانية عشر من عمره، أن يبوح بما حصل معه في فروع الأمن أثناء اختفائه هناك لشهور. وحده الطبيب من أخبر أمه بأن التهتكات التي تعاني منها مناطقه الحميمة، وكذلك نهاية جهازه الهضمي، تنبئ بحجم الاعتداءات الجنسية المتكررة التي جرت عليه في فترة الاعتقال!.
لكن ما جرى على (م) لم يجرِ عليه وحده، ذلك أن حجم الانتهاكات الجسدية والمعنوية النفسية التي تعرّض لها آلاف الأطفال السوريين، منذ خمسة عشر شهراً وحتى الآن، لا يمكن أن تقدّر بعددها فحسب، بل بالتبعات الجسيمة التي خرّبت ذاكرة أولئك الأطفال، وجعلت (م) يصاب بالهيستيريا إذا اقترب منه رجل، أي رجل، حتى لو كان أبوه! كما جعلته ينوء يومياً بكوابيس التعذيب الذي كان يطبّق على المعتقلين أمامه!
– “ما كنت أقدر نام.. أصوات التعذيب جنبي كل الليل.. كنت شم ريحة الدم..”.
هذه هي المعلومة، شبه الوحيدة، التي أسرّ بها (م) هامساً، قبل أن يبدأ علاجاً نفسياً ممنهجاً قبل مدة قصيرة.
و(م) اعتقل من أمام باب مدرسته الابتدائية في إحدى بلدات ريف دمشق، كغيره العشرات في ذلك الصباح الذي شهد مظاهرة طلابية صاخبة. وكغيرها من المدارس كذلك عاش طلابها فصولاً دراسية محقونة بالترقب، وبدوريات الأمن التي تصطف أمامها وبمجموعات الشبيحة التي تقتحمها في معظم الأحيان. هذا ما جعل ذاكرة مثقلة برائحة الخوف تعشش في وجدان تلاميذها، وتنبئ بتبعات خطيرة في القادم. ولئن كانت التقارير والإحصاءات المتوالية والمعنية بانتهاكات حقوق الطفل في سوريا تسبب صدمات إنسانية للمتابع، وآخرها إحصاء الشبكة العربية لحقوق الإنسان الذي يفيد عن ما يقرب 2000 طفلاً استشهدوا في سوريا منذ بدء الثورة، وكذلك تقرير الأمم المتحدة عن اعتبار سوريا في رأس قائمة البلاد التي يتعرض أطفالها لانتهاكات جسيمة من تعذيب واعتداء جنسي واستخدام كدروع بشرية، إلا أن الأخطر هو تفاصيل ذاكرة العنف التي تنقش عميقاً، ويكبر عليها من تبقى من أطفال سوريا، أولئك الناجين من المجازر والقصف والتفجيرات والرصاص الطائش!!
الصغيرة (س) أيضاً كانت واحدة من أفراد إحدى الأسر الحمصية النازحة، وقد استطاعت النجاة من قصف الخالدية قبل أن يلتجئوا إلى بيت الخالة في دمشق. حين دخلت (س)، التي لم تتجاوز العاشرة، البيت (الآمن) لم تشعر بأنه يشبه تلك الجنة الموعودة مقابل الجحيم الذي كانت تعيشه، فبيت الخالة مليء بالشبابيك، الأمر الذي جعل (س) تصرخ بهيستيريا وهي تختبئ خلف أمها، وتنادي بأن الشبابيك الكثيرة ستسمح للرصاص الطائش والشظايا باقتحامهم.. ثم حينما لمحت البناء العالي المقابل ازداد صراخها المرتعب وهي تشير إليه وتلهث:
– “هذا البيت ما ممكن السكن فيه.. مكشوف كله للقنّاص فوق البناء هنيك.. هنيك شوفوا.. قناص”
ولم تجدِ نفعاً كل محاولات الخالة لإقناعها بأنه لا يوجد قناصة هنا ولا رصاص طائش، فلم تهدأ الصغيرة حتى جلس الجميع في غرفة داخلية خالية من الشبابيك، وبعد أن اقتنعت كذلك بأن ثمة قبواً في البناية من الممكن الالتجاء إليه في حال بدأ (القصف)!. ومع ذلك ظلت عيناها تنضحان بترقب دائم يجعل أي صوت يصدر في المحيط سبباً لدخولها في حالة من بكاء مجنون.
(س) واحدة من عشرات آلاف الأطفال السوريين الذين يعانون من رهاب عنف مماثل، ومن تبعاته التي طالت معظم المناطق. إنها ذاكرة مقيمة عنوانها العنف: القصف والضرب وإطلاق الرصاص ورائحة الموت المحيط هي التي يؤسس ذاكرتهم اليوم. في كثير من المناطق الثائرة تسجّى الجثث على الأرض، وأحياناً تكون مقطّعة الأوصال مدمّاة، والأطفال يتحلقون حولها، فالشهيد قد يكون الأب أو الأخ أو القريب أو الجار! وهذا لا يخصّ شهداء المعارضة فحسب، فأطفال رجال الجيش النظامي، والكثير منهم أقرب إلى أدوات بيد النظام، يتعرضون للقهر ذاته حين يسجّى جسد من يخصّهم شهيداً أمامهم، وما أكثرهم اليوم!
الأمر بوضوح يخصّ ذاكرة طفولة تتخرّب، تتبدل فيها القيم التي من المفترض أن تبنى عليها إلى قيم مختلفة. إحدى هذه القيم هي نظرة الأطفال إلى (حماة الديار)! فلطالما كان جيش البلاد مدعاة للطمأنينة في وجه العدو، هذا على الأقل ما كان يتم زراعته في ذاكرتهم على مدار الزمان. اليوم يبدو جيش البلاد هو العدو بعينه في عيون أطفال المناطق المنكوبة. يتّضح هذا في الكثير من ردود أفعال الصغار وفي نتاجاتهم أيضاً.
(ع) مثلاً طفل من إحدى البلدات المشتغلة في ريف حلب، ولم يفلح لجوء أهله إلى بيت أقربائهم في حلب المدينة في تهدئة خوفه، فما زال يبكي مرتجفاً حالما يسمع صوت الأذان يعلو، كأنه نذير حرب، لاعتقاده بأن إطلاق الرصاص على المظاهرات سيلعلع للتو. وحينما قدم ابن العائلة المضيفة في زيارة وهو يرتدي لباس الجيش، لأنه يقضي خدمته الإلزامية، صار (ع) يصرخ زاعقاً وهو يشير إليه وكأن ثمة وحشاً دخل البيت، ثم هرب وأخوته الصغار ليختبئوا تحت الأسرّة! كان مجرد رؤية لباس الجيش بالنسبة إليهم سبباً كافياً للذعر الهيستيري.
وإن كان تخريب الذاكرة بالعنف والموت واغتصاب الطمأنينة هو عنوان لطفولة المناطق المشتعلة، فإن أطفال المناطق غير المشتعلة لا يعيشون في الجنة! ذلك أن مظاهر العسكرة التي تملأ المدن والبلدات، المسلحون والدبابات والمدرعات والحواجز والسواتر وغيرها، كذا أصوات القصف، البعيد والقريب، مشاهد الدمار المنتشرة في كل مكان، كل ذلك الحقن الطائفي والمناطقي والطبقي، الفقدان والموت اليومي المحيط، والخوف والترقب وهيستيريا البقاء، الذي ينقلها إليهم الكبار، لا يقلّ كل ذلك في تأثيره المخرّب لذاكرتهم القادمة!!
قبل أيام كان هناك صبي آت إلى الامتحان في يومه الأخير ومعه بارودة بلاستيكية تكاد تفوقه طولاً، ويرتدي بذة عسكرية مرقطة. يمشي ويطلق النار (الوهمية) على رفاقه. ثمة من ابتعد عنه، وثمة من شتمه، وثمة من حاول التمسّح فيه قائلاً:
– “بتقدر تحميني إذا هجم عليّ حدا؟”.
أطفال سوريا هم أكثر الشرائح التي ستعاني من تبعات العنف الذي نعيشه، لأن الغد سيبنى بهم. ولئن كان ثمة مراحل قطعها أولادنا في الثورة السورية لجهة كسر الخوف من الطغاة وأدواتهم، وتهشيم قدسية النظام وأركانه باتجاه الحرية، إلا أن العنف الشديد الذي استهلّه النظام، وعمّ كامل التراب السوري، يمهّد لأجيال ستكبر ذاكرتها في مستنقع العنف. وأعتقد بأننا مطالبون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتفكير جدياً في هذا الأمر!!