اسماعيل الرفاعي
٨ تشرين الأول ٢٠١١
.
.
.
٨ –
بلودي ميري.. كؤوس من البيرة الباردة، عصير برتقال، ومنفضات تغص بأعقاب السجائر..
صوت أوبرالي، مغمس بكأس البيرة الثالث يفيض على المكان، يجرّ وراءه سحائب روسيا البيضاء، رقصة أنا بافلوفا الأخيرة، مطرقة لينين، ومنجل ماركس.. صوت ملائكي يستنفر الشياطين الهاجعة في البار، يضع تيسير بركات حفرياته جانباً، يترك شخوصه تسبح في فضائه الرمادي الدافئ، وينطلق للرقص.. يتلوى قرب سيدة ألمانية، نبتت لها أجنحة وحلقت، يشبك أصابعها، يتشمم زهورها، ويطبع قبلة على خدها بتهذيب شديد.. يتبادل الأصدقاء النكات والذكريات.. السنين تدور على الطاولة، يمسك يوسف دويك دفة الزمن.. من القدس، إلى رام الله، إلى غزة، ومن سوريا إلى شيكاغو.. محفورة على صدره العريض نقوشاً كنعانية، وبين ضلوعه حفنة من تراب فلسطين، يعبّ من كأس العصير، ويغرق في برتقال يافا.
أسرح قليلاً.. بيدي حفنة من الرمل، أصنع قلعة تشبه بيتي، أشق طريقاً نهريّاً، أزرع بعض أعواد الزلّ، وقبل أن تكتمل عمارة الرمل، ينفجر أزيز رصاص حي.. تقوض المجنزرات عمارتي الخلبية، ويسيل دم غزير على ضفة الفرات.. يلكزني علي العامري بضحكته الفاجرة، يرسم وجه المغنية بأصابع شبقة، متجاهلاً عازف الترومبيت، يطلب من النادلة ورقة A4 يضعها أمامي، ويطلب مني الرسم، يداي مضطربتان، وقلبي متوفّز، أتلقى اتصالاً من أحد الأصدقاء، يخبرني عن اغتيال مشعل تمّو، ومحمد سلوم الوهيبي.. أترك أنقاض قلعتي، أتذكر علي الوهيبي وأنور المهيد، الأول اقتيد من مقعد الدراسة إلى سجون الثأر، والآخر قضى في حفرة على ضفة النهر.. أقطف تينة من أشجار الوهيبي، وأعيد إلى علي الحمّرة التي أسرها منذ سنين بعيدة بمفقاسة الخشبي الذي نصبه على شجرة زيزيفون.. تكرّ سبحة السنين إلى الوراء، يستوقفها سليمان منصور، بضحكته الثرية، يهزّ رأسه إعجاباً بصوت المغنية.
سليمان منصور وفلسطين وجهان لجرح واحد، منذ أن صعد خطواته الأولى على أدراج ذاكرتنا، وهو يحمل القدس على أكتافه.. نقوش الفلسطينيات وكوفية الفدائيين، تتوهج في ظلال أشجار الزيتون التي غرسها نبيل عناني في أرض فلسطين كلّها.. لكل طفل شجرة زيتون، وحلم يقضّ نومه في سرير المهد، ومن أسوار قلنديا.. إلى أسوار دمشق يتجمهر الشهداء في الساحات، يتصيدهم منصور ودويك والعناني واحداً واحداً، ويقبض عليهم ثائر هلال دفعة واحدة في مندسياته.. هكذا في لمسات من الحبر الصيني تختزن كثافة الدم الذي نزفته بلادي.. يسحب عناني نفساً من سيجاره وينفث دخانه في فضاء آخر..ضحكته هو الآخر تشبه أعماله.. هكذا نسيجاً متراصاً من شجر الزيتون، تتوهج في ظلالها تخطيطات لذاكرة القدس بقبتها العالية.. أتلقى اتصالاً آخر.. أعود من إلى منعطف النهر، صالح اقتطعت ساقه في سجون الأمن.. أنباء عن اغتيال نواف البشير.. اختطاف امرأتين من باب السباع، إعدام عشرين طفلاً في الرستن، الصين وروسيا في فيتو لشرعنة القتل.. برهان غليون على قناة الجزيرة.. جمعة باسم المجلس الوطني.. حكم البابا يهدد بإغلاق حسابه على صفحة الفيسبوك، بسيم الريس في جداريته الأربع عشرية، خولة حديد في مرثيتها لأخوتها، رافيا قضماني في حزنها العميق وخشيتها من تنفيذ التهديدات التي تتلقاها من شبيجة الأسد.. خولة دنيا في شفافيتها البالغة الحدة، إسلام ابو اشكير في حسرته على الكردية التي لا يتقنها.. ياسر الصافي في صراخه آزادي آزادي.. وابني أحمد في شقاوته المفرطة، يقلب الكون رأساً على عقب، ينادي بإسقاط النظام، ويلح علي برغبته بالسفر إلى سوريا، يصرّ على الأزرق ويشتم الأصفر، يدور ويدور في الصالة، ويدور مصراعه المجنّح فتختلط الجهات والأمكنة.. برزة في باب عمرو من جديد، والرستن في تشييع تموّ.. الخالدية في تل منين، ودور المدلجي في ساحة الأمويين.. يخفت صوت المغنية، وتعلو قهقهات العامري، يتأبط يدي، ندفع الحساب ونخرج.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.