“خليليييييي.. هادا الصوت يلي صرختو بعد ما شفت محمد خليلي متصاوب بالأرض والدم مغطيه، صرخت هالصوت وركدت.. كنت عم قول إذا خليلي اتصاوب معناة مصطفى أكيد مانو بخير. لهلأ بيتهمني خليلي كيف إني ندلة وتركتو.. هاهاهاهاهاهاهاها”..
المكان: حلب، بستان القصر
الزمان: الجمعة 16 تشرين الثاني 2012
الحدث: مظاهرة
– مها، أنتِ ومصطفى كنتم قد قررتم السفر وترك البلد فما الذي جعلكم تذهبون إلى المظاهرة؟
لم يكن السفر قرار مصطفى، هو أراد السفر نزولاً عند رغبتي. أنا التي كنت ملحاحة على مغادرة البلد كونه تملكني شعور قبل شهرين بأنني سأخسره. أردت الاحتفاظ به لأطول فترة ممكنة وكنت أفعل المستحيل لأبعده عن الشارع. كان من المفترض في ذلك اليوم أن ننهي فقط حملة نظافة شوارع بستان القصر وفتح أبواب المدرسة للتسجيل وأن نعود إلى المنزل. ولكنه يوم الجمعة والثوار سوف يتظاهرون فمن الطبيعي لنا أن نحضر المظاهرة.
– ما الذي حدث؟
“هَاون”، في البداية لم أستوعب ما حدث، أصبح كل شيء فجأة حقيقياً لدرجة أننا أُصبنا. اعتدنا على المظاهرات والقفز من شارع إلى آخر وكان أخطر ما يمكن أن يحدث لأحدنا هو الاعتقال، نُعتقل ثم نخرج. الجثث في كل مكان تقريباً، محمد خليلي مصاب بالأرض، وأنا كالمجنونة أبحث عن مصطفى، إنه الموت.
– ألم تفكري بالموت من قبل؟
لا، كان دائماً حدث بعيد بالنسبة لي. بكيت الشهداء كثيراً، وتورمت عيناي عند استشهاد غياث مطر، لكنه كان دائماً بعيداً. اعتقدت أنه باعتقال أخي واختطاف أختي ومنزل أهلي الذي هُدم قد عقدنا صفقة مع الموت وهذا هو نصيبنا من الخسائر.
– هل كرهت الثورة؟
استعنت بكل ما أسعفتني إياه ذاكرتي من شتائم وأطلقتها على الثورة، نعم كرهتها. ليس لأنها أخذت مصطفى مني بل لأنها خَرِّبت.
– وكيف كانت؟
كانت جميلة. لم أكن لأتخيل أن العالم يحوي هذاالكم من الوحشية، يالسذاجتي.
– ألم تسمعي بما كان يحدث بالسجون السورية قبل الثورة، ألم يخبرك أحد عن أحداث حماة، ألم تسمعي قصص الموت القادمة من حمص؟
– لاء، نعم.. كانت قصص، أسمعها وأتابع معايشة ثورتي.
– هنالك مقولة تتردد دائماً “دم الشهيد مو نسيانينو”.. هل يُنسى دم الشهيد مها؟
– يُنسى ويُنسى ويُنسى.. يُنسى مئة مرة.
كانت كلما دخلت علينا لتلقي التحية أراقب تلك الابتسامة المرتسمة على وجهها. تمرين يوغا، هو ليس فقط لتمرين عضلات الوجه، أنه لتمرين الروح على الحياة.
– كيف يمكن لنا الاستمرار بالحياة بعد هكذا فجيعة؟
الألم. فكرت بالانتحار بأكثر من مناسبة ولكن من كثرة ما تألمت لم أرد لغيري أن يشعر بهذا الألم. تربطني بأمي وأختي علاقة قوية، لم أكن لأسمح بأن يمروا بهكذا تجربة مؤلمة. أيضاً علاقتي بالحياة، أنا شخص يُحب الحياة ويعلم كيف يعيشها، هذا ما كان يقوله لي مصطفى.
إنها مها، أخت حسين غرير “هل سمعتِ قصتها؟”..لا. هكذا كان الكل مُصراً على تعريفها. حقيقة لم يعنيني هذا التعريف كثيراً فقد كنت مشغولة بملاحقة ذلك الشرود الطارئ الحاضر.
– تشردين كثيراً مها، أين تذهبين؟
إلى مصطفى، ألاحق طرف ذكرى أتمسك بها كخيط البالون، فأفقد الإحساس بالمكان ويصبح جسدي خفيفاً، وأُحلّق. فيأتيني ذلك السؤال مَن أنا وماالذي أفعله هنا؟ لقد خُنت ناس الثورة لقد خُنت مصطفى.
– كشخص مؤمن أين تضعك هذه التجربة من الوجوديات؟
بدأت بالتشكيك قبل وفاة مصطفى. لا يمكن أن يشهد الله كل هذا الموت ويبقى صامتاً، أَلم تصله صرخات السوريين التي هزت الفضاء؟ وموتنا المُعلن ألم يخترق تلك السموات السبع؟ عدت وآمنت به بعد وفاتة، كل ما أراده مصطفى قد تحقق. لم يخذلني، ولم يخذل ذاته.لم يخن الثورة التي طالما آمن بها وعمل لأجلها. قبل يومين من وفاته رأى والدته وبالصدفة البحتة، قرار زواجنا المفاجئ، وبالتالي استشهاده وأنا زوجة له.
– منذ شهرين تقريباً ورغم كل الحزن والألم الذي ما زلت تكابدينه ذهبت إلى حلب وتظاهرتِ، لماذا؟
– أردت مواجهة خوفي، كنت أرجف عندما دخلت حلب معالعلم أن إحساساً براحة الضمير كان يعتريني. لم أستطع النوم تلك الليلة، كالطفلة كنت منكمشة على ذاتي حيث صوت القصف يملأ الفراغ. فكرة واحدة كانت مسيطرة علّي، أني غداً سأموت بالمظاهرة. أراقبهم في الصباح وأنا أشرب قهوتي كيف يلوّنون المناطيد، فألتقط واحداً وأبدأ بتلوينه ليعود ذلك الحماس ينبض من جديد في عروقي، فأقرر الذهابإلى المظاهرة.
– ألم تقولي أنك كرهتِ الثورة؟
تبكي مها وتُخبأ وجهها بيديها..
لا أستطيع أن أكرهها. أجمل لحظات عمري عشتها بالثورة، هي من صنعتني. الثورة جلعتني أحب جزء كبير من الناس، الثورة جعلتني أحب سوريا.
“نعم أنا قادرة على الحب مرة أخرى، فمصطفى لم يكن فقط حبيب أو صديق. هو جزء مني، بوفاته فقدت هذا الجزء ليحيا مقابله جزءه بداخلي. نحزن نحن عند فقدان عزيز أو قريب ولكن هو ليس نفس الحزن عند فقدان مَن أثربنا.
مصطفى آمن بيّ”..
ملاحظة: لولا تلك المقدرة على الإبتسام طوال الوقت لمّا فكرت بإجراء هذه المقابلة