… منذ أشهر عدة ونحن ــ ما تبقى من سكان حارتنا ــ محاصرون بين أنقاض بيوتنا, ننتظر بملل قطعان الشبيحة حتى يهجموا علينا ويذبحونا كما فعلوا مع سكان الحارات الأخرى.
نمضي أيامنا بالتثاؤب داخل هذا القبو الواسع تحاشياً للقذائف, ونتخيل في العتمة كيف سننقرض كسوريين خلال وقت قصير, لنتحول إلى مجرد معلومة في المناهج الدراسية لدى الشعوب الأخرى.
هذه البلاد ــ كما كنا نتخيل ــ لن يظل بها أحد غير الشبيحة عما قريب.
ذات أربعاء.. ثمة فكرة رائعة لخطة عظيمة لمعت في رأسي, وقتها شهقت وجسدي يرتجف وكأن آيةً قد هبطت عليَّ من السماء.. خطة عظيمة بمثابة معجزة عقلية, سوف تحمينا كسوريين من الإبادة والانقراض, لتمنحنا فرصة نادرة للخلود في هذا الكون.
عندما رجع الرجال صباحاً من صيد القطط في أزقتنا جمعتهم مع النساء والأطفال, ثم قلت لهم بثقة:
ـــ قررت أن أرسل إلى الفضاء الخارجي برميلاً فيه طفل وطفلة من حارتنا.. ليسقط على كوكبٍ ما.. حيث تبدأ حياة سورية جديدة.. ننقرض هنا على الأرض.. لكن وبعد قرون قليلة نصير شعباً كاملاً هنالك على ذلك الكوكب….
منهم من أذهلته خطتي العظيمة, ومنهم من اتهمني بالجنون.
أخي وسعاد كانا أوّل من آمن بخطتي.
طلبت من أخي المختص بتصليح وتعطيل المحركات الآلية قبل الحرب, وتصميم العبوات الناسفة بعد الحرب أن يصنع أربعة صواريخ, تستطيع أن تقذف برميلاً إلى الفضاء الخارجي بسرعة دون أن تنتبه له المضادات الأرضية للحقراء.
عثرت على برميل في زقاق خلفي, فدحرجته حتى باب القبو, وبدأت بتنظيفه وتجهيزه ليصير مناسباً لخطتي العظيمة, ثم أجريت مقابلات مع أطفال القبو, ورغم توسلات بعض الأمهات, اخترت كل من يمان وجمانة (6سنوات) لأنهما الأذكى والأجمل من بين كل أطفالنا.. وبهذا أضمن نشوء شعب سوري جديد ونقي ومتميز.
الحقير خلدون سخر مني ثلاث مرات, هذا الكافر لم يؤمن بخطتي, لم أهتم.
تابعت تجهيز برميلي وثمة نشوة روحية هائلة تمتلكني, بينما عدد المؤمنين بخطتي يزداد ساعة بعد ساعة.
برميلي هذا هو عبارة عن تجلٍّ آخر لسفينة نوح.
يمان سوف يكون أدم السوريين وجمانة سوف تكون حواء السوريات على ذلك الكوكب.
أحسست بأنني شيء يشبه الله, ليس الله تماماً.. لنقل إنني الله إلا خمس دقائق.
أيضاً, نويت أن أضع عدة أشياء ضرورية في البرميل, وهي:
1ــ قصصي: لتكون بداية انطلاق الآداب لدى السوريين الجدد في ذلك الكوكب, مثل الإلياذة عند اليونانيين, والمعلقات عند العرب.
2ــ رسومات سعاد: لتكون بداية انطلاق الفنون عندهم.
3ــ رسالة: أشرح فيها للأجيال التي سوف تأتي من يمان وجمانة, كيف انقرض أجدادهم على كوكب الأرض بمجازر الشبيحة.
4ــ كمشة من زهور الياسمين: لتزرعها جمانة على ذلك الكوكب, فتصير بعد قرون قليلة دمشق أخرى.
5ــ عدة صور شخصية لي: ليعرف الشعب الجديد من هو الذي اخترعه.
مرة انحنيت على يمان وحذرته:
ـــ قد تسقطا على كوكب فيه كائنات غريبة, لا تخف منهم, أعطهم الرسالة وبعضاً من قصصي, وحدثهم عنا نحن السوريين وعن مأساتنا.
في الأربعاء التالي صار البرميل جاهزاً والصواريخ مثبتة أسفله, صرخت على يمان وجمانة, ثم أنزلتهما فيه ليقرفصا داخله.
ابتعدت قليلاً لأتأمل برميلي, وأنا أتخيل الأجيال القادمة من السوريين الجدد على ذلك الكوكب, تسجد لتماثيل لي نحتوها مستعينين بصوري, تقديساً لمن اخترعهم.
فجأةً.. سمعت صوت بكاء جمانة يعلو, فأسرعت إلى البرميل وسألتها:
ـــ لماذا تبكين عمو ؟..
رفعت رأسها وتمتمت لي وهي تشير بخوف إلى يمان:
ـــ إنه يقبلني …
ـــ يا حقير …
التقطته من شعره لأرفعه خارج البرميل, ثم جررته بعيداً حيث صفعته بقسوة, حذرته بعد شتيمة بذيئة وأنا أفرك أذنه:
ـــ اسمع ولاك.. بعد أن تسقطا على ذلك الكوكب إياك أن تلمس جمانة أو تقترب منها.. وإنما تبدأ بعد الأيام على أصابعك.. وبعد مرور اثنا عشر عاماً.. وقتها يحق لك أن تقترب منها وتقبلها.. وخلال هذه الأعوام إن رغبت هي بتقبيلك لا مشكلة.. لكن أنت ممنوع.. أفهمت ؟…..
سالت من عينه دمعة وهو يقول:
ـــ اثنا عشر عاماً !!.. والله العظيم هذا كثير..
ـــ اخرس.. لا كثير ولا قليل.. يجب أن تكون (أدم) وليس (علاء زلزلي)…
جررته ثانيةً من أذنه وأنا أركله ثم رميته داخل البرميل ورميت فوقه كيس الأشياء الضرورية.
نزلت إلى القبو وصرخت على الجميع, لنخرج ونجتمع حول البرميل.
لوحوا بحزن مودعين جمانة التي لوحت لهم أيضاً, يمان لم يلوح لأحد, بينما أصابعي المرسومة على خده تهتز, وكأنها تودعني, ثم أغلقت عليهما غطاء البرميل بإحكام.
أشعلت الصواريخ وابتعدت قليلاً, انقذف البرميل وطار عالياً. ظللنا نراقبه حتى اختفى في سماء الصباح.
أهل الحارة نظروا إليَّ بفرح, أحدهم بدأ يصفق ببطء.. ثم شرعوا كلهم بتصفيق مدوٍّ.
لقد نجحت خطتي العظيمة, نعم.. لن ننقرض كسوريين رغم أنف مجازر الشبيحة, لقد ربحنا الخلود على كوكبٍ آخر.. أنا أعظم من نوح وبرميلي أعظم من سفينته.
لم أسمع تصفيقهم, كنت أسمع عزفاً منفرداً هادئاً على البيانو يأتي من جهةٍ مجهولة.
كادت سعاد أن تركض إليَّ لتعانقني وتقبلني أمام الجميع, لتعلن نهاية المرحلة السرية من قصة حبنا, وأنا أرفع كفي لأحييهم و……….
سقط البرميل على رأسي, تهشمت جمجمتي وانكسرت عظامي, ودخلت في غيبوبة.
الشباب حملوني إلى المشفى الميداني المتواضع, حيث بقيت أحتضر فيه لثلاثة أسابيع, قبل أن أموت وأدفن في الزقاق خلف القبو, جانب قبرٍ صغير لـ جمانة.
كنت أظن أنني الله إلا خمس دقائق, اكتشفت أنني مجرد أحمق. وأن الانقراض هو مصيرنا الحتمي, فرجع الجميع إلى الملل والتثاؤب بانتظار الذبح.
عندما كنت أصحو من غيبوبتي قليلاً, كان الشباب يحكون لي عن يمان.
فبعد أن سقط البرميل وتدحرج طويلاً, أسرعوا وفتحوا غطاءه, جمانة كانت ميتة, أما يمان فقد أصيب ببعض الجروح.
لكنه.. ومنذ أن خرج من البرميل ــ ورغم مرور الأيام ــ إلا أنه يتعامل مع أهله ومع جميع سكان القبو على أنهم هم الكائنات الفضائية الغريبة, ويحدثهم عن السوريين ومأساتهم, ثم يناولهم بعضاً من قصصي المضرجة بالدم وتلك الرسالة.
وفي الليل ينزوي بعيداً ليجلس وحيداً, يتأمل يده.. يثني إصبعاً, ثم يهذي بصوت خافت وحزين وهو يهز رأسه:
ـــ اثنا عشر عاماً !!.. يااااااااااه.. والله العظيم هذا كثير.. والله العظيم هذا كثير.. والله العظيم هذا كثير..
قصص ومشاعر تملؤها الاحزان
يا الله!