في الغالب نحن نملك ذاكرتين: الأولى حقيقية، والثانية مشتهاة، وحين نحول حياتنا الماضية لقصص نرويها – ونحن نحب ذلك بطبيعة الحال – نصبح كالبدو الذين يحبون تحويل كل ما يحدث معهم إلى قصص ثم تصبح مع الزمن واختلاف الرواة … خرافات.
نضيف ونحذف، نجري العديد من التعديلات التي نتمنى لو أنها حدثت. ثم نخرج في كل مرة قصة جديدة عن الحدث نفسه، إلى أن نرضى عن نسخة وحيدة تكون مناسبة مع ما نشتهي وما نحب أن نبدو.
لا أحد يروي سيرا من ماضيه بشكل كامل ودقيق، هناك مثل يقال للشاب الذي يلتحق بخدمة العلم، وهو: “بالعسكرية بيكذب وبالمدنية بيكذب”، يعني أن أحدا في العسكرية لا يعرف شيئا عن حياته خارجها، وأحدا في الحياة المدنية لا يذهب معه إلى سريره العسكري وذله وتذليله. فيكذب هنا ويكذب هناك.
لا أحد وفي بشكل كامل لتاريخه، نتمنى بشكل مستمر أن يعود بنا الزمن للوراء لنترك أثرا مغايرا، لنحذف كلمة قلناها بلا وعي، أو أن نقذف أحدهم بأبشع الشتائم، هناك العديد من المحطات التي نرويها بتعديلاتها ثم مع الزمن تصبح هذه التعديلات في لاوعينا هي الرواية الوحيدة للأحداث والتي نظن أنها حدثت كما رويناها، ننسى الأصل تماما.
كم مرة نقول ونحن نروي عن مشاجرة ما مثلا: “قلت له خراس”!، في الواقع نكون قلنا ذلك في قلبنا لا مجاهرة.
إن كل مشهور أو مشهورة يقولون للصحفيين إنهم ليسوا نادمين على أي شيء فعلوه في حياتهم، هم تماما يريدون القول إنهم نادمون، ولو عاد بهم الزمن إلى الوراء لفعلوا العديد من الأمور المعاكسة.
الندم جزء من حياتنا غير أنه الخطأ الثاني، المشاهير تجري العديد من التعديلات وبشكل دائم لكي تبقى بطلة.
نحب أن نتحدث عن أنفسنا كما نشتهيها أن تكون لا كما هي، مع أن أغلب أعزائنا المستمعين – وهذا مثبت في علم النفس التململي (هذا من اختراعي) – لا يطيقون خلقا وليس لديهم صبر لرجل أو امرأة لا حديث لهما سوى الذات.
وتثبت الحقائق أن الآخر يصدق الوقائع التي تروى عنك أو تستنتج بشكل خفي من مسيرتك، أكثر من تلك التي تحكيها بشكل مباشر، تخيل أن تقول “أنا رجل كريم ابن كريم من سلالة العرق النادر”، ستصبح مسخرة المساخر لا محال. بينما تكون أعمالك في الكرم والجود أشد تأثيرا من قولك.
إن “الكليشة” التي تكتب عادة خلف الأعمال الفنية والأدبية حول أبطال القصة المتخيلين والتي يؤكد الكاتب والناشر فيها، ألا صلة لأبطالهم هؤلاء بالواقع، هي كذبة كبيرة تتكرر باستمرار، ولكنها ليست كذبا بالكامل.
لأن الراوي يا سادة يا كرام، يداخل ويدمج الأمور في بعضها البعض، يلعب في المساحة التي هي بين الواقع والمتخيل، وأغلب الأعمال الإبداعية هي في هذه المساحة، ولعل أمهر الرواة هم الطهاة الذين يخرجون عملا لا تشعر فيه بالفارق بين مساحة الواقع وشقيقه المتخيل.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.