يقول باشلار(1)غاستون باشلار، 1884-1962، فيلسوف فرنسي في موضعٍ من كتابهِ جماليّات المكان: {إنّ اللمحة السايكولوجية التي تجعلنا نقول لأنفسنا عندما نقرأ كتابًا ما (كان عليّ أن أكتبَ هذا الكتاب) تجعل منّا ظاهريين في القراءة، ولكنّنا ما دمنا لم نقل هذه العبارة لأنفسنا، فسوف نظلّ علماء نفس أو محللين نفسيين}.
لهذا النوع الثاني، أي غير المستوعَب وغير المتنبَّه لهُ في الأذهان حتى بعد قراءته، ينتمي كتاب «أحلام باصورا»(2)أحلام باصورا، دار الجمل، 2016 للقاص العراقيّ محمد خضير(3)محمد خضير، مواليد مدينة البصرة في العراق، 1942.
بدايةً يطالعنا الغلافُ عاطلًا من أيّ تجنيس (رواية، مجموعة قصصية، مقامات)، بيد أنّ العنوان في المقابل يكشف عن رغبة الكاتب الدّفينة في تحويل الأحلام إلى جنسٍ أدبيٍّ في ذاته، جنسٌ أكبر من الخضوع لمنهجية التّجنيس بحدوده وعقلانيته، هل قلنا: إنها زلّةٌ متعمَّدة من زلّات القلم؟، ثم هل أدلّ من الأحلام وعوالمها، أو القارّة السابعة كما يحلو للبعض تسميتها، لنجد أنفسنا قد تورّطنا بكل ما هو غرائبيّ ومتحوّل؟. إذن سترهقُنا صعودًا إشاراتُ خضير على مدار /232/ صفحة، إذ لا شيء سيكون بين أيدينا تامَّ التشكّل، وستجلدُ لغتُه أفهامنا بسياطٍ محمّاة. فَعَلها شعريًا سليم بركات عندما كتب «المعجم»(4)المعجم، سليم بركات، دار المدى، 2005، ونجا، فكيف سيفعلها خضير قصصيًا، وهل سينجو؟.
تنقسم المجموعة القصصيّة/الأحلاميّة إلى ثلاثة أقسام: باصورا، أحلام باصورا، والحاشية. مع القسم الأول: ينطلق الرّاوي ليعرّفنا بذاته، باسمه العجيب «بوراني» ذلك الكائن الخاضع للانمساخات، المطحون بمطارق التحوّل المنامية، بطلٌ لا يملك من بطولته نصيبًا. هو في ذاته المهشّمة، محمد خضير ليس إلا!. لغتُه مزجٌ هلووسيٌّ غير منتظم، وجسدُه متصلّبٌ لا يفرّ من هول الأحلام (كما يحدث معنا في الأحلام عندما نشعر بأنّنا غير قادرين على الحركة أو الهرب)، إلا أنّ امتداديّة حلمه جعلته متمكّنًا ومتفهّمًا لـ”واقعه”، عمليّةُ تمرُّسٍ طويلة وخبرة تتلذّذُ بلؤمٍ للنوم، ولا تستسلم لسيادة الصحو، أو بتعبيرٍ آخر لا يساوم بالفرار من رعب الحلم والخيال، والعودة إلى رعب الحقيقة والواقع الذي لا صحوَ منه. (ربما الموت هو الصّحو الوحيد عندها؟)
أمّا باصورا، كمكان يخوض فيه بوراني مقاماته، إن جازت المقاربة، لا تعدو أن تكون مطحونةً مثله، وبالتالي هي في ذاتها مدينة البصرة العراقية ليس إلا!. وبذلك لا يبقى من علاقة تجمع بينهما سوى لحظة التحول، وليس حديث التيمة المكانية البليد عن الولادة والمعيش والانتماء، فكلاهما في طورٍ غير منقطع من التحوّل العصيّ على التشكُّل التّام والقولبة، لا ثبات في بوراني كشخصية، ولا ثبات في باصورا كمدينة، ولا ينعقد بينهما إلا حبلُ اللغة التجريبية الممسوسة، وهي أقرب ما تكون للأحاجي والطلاسم التي تفرّق كلَّ حميميّ، فتظفر بأريحيّة الحالم المكشوفة، ولا تعبأ بصرامة العقل وتمثيلاته: سواء في النّحو بوصفه معيارًا تراتبيًا في اللغة، أو بالأنا الأعلى كموروث ضابط للسلوك، أو بالواقعيّة كقلعة مَدْرسية وأيديولوجية.
ففي قصة معنونة ب«حلم الصقر» يقول خضير (لو أنك عشتَ وسطَ المجرمين الطيبين، ولم تُدِنْ واحداً منهم قط، واكتفيتَ بما اكتفى به كُتّابُ “القلعة” من نقدٍ وسخرية خفيفة صُبّتا في وصفٍ دقيقٍ وحوارٍ عامّيٍّ رشيق، لكنت الآن هاربًا من واقعيّتك ولعنتِها، بعد غياب الأصحاب والنّماذج المحبوبة لديك، وقد شارفتَ أن تختتمَ رؤياك بانهيار “القلعة” وخراب المدينة الأليفة، رؤيا الخراب أو الفوضى أو العدم الأخلاقي وزحمة الأغراب المتطفلين على عزلتك).
لكن عن أيِّ شيء حقًا تتكلّم أحلام خضير، فبالنهاية قد أنتجَ الرجلُ كتابًا يمكن معاينته ماديًا، فهل تكتفي الأحلام بالإشارات والتوغّل بالرّموز فحسب؟. الجواب على هذا يبدأ مع القسم الثاني حيث ينتهي الكاتب من معاينة المكان، وينتقل لسرد أحلامه التي هي في الحقيقة مذكّرات القاصّ السبعينيّ المخضرم.
يُسْتَهلُّ القسمُ الثاني بقصّتين، الأولى بعنوان «تعبير حلم محفوظي» حيث يتموضع نجيب محفوظ كمُلهمٍ أساسيٍّ لهذه الأحلام، وذلك بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال نشرَ إثرها بعضًا من الأحلام التي راودته في غيبوبته، إذن تقنيّة الحلم هي أوّلُ كشوف التّناص التي يعترف بها خضير ويفصّلها إبداعيًا.
أمّا القصّة الثانية «رؤيا السروجي» فهي اشتباك لغوي مع مقامات الحريري، وعنونةٌ أشبه ما تكون اعترافًا بالفضل من خلال استعارة اسم بطل تلك المقامات وخلق صلة وصل بينه وبين «بوراني».
مع هاتين القصّتين يمكننا تحديد إطارين عريضين ألهَما الكاتب في التقنيّة واللغة، بيدَ أنّ تناصًا كهذا لا يقدّم خدمات مجانيّة للكاتب إلا ويعقّد له بالمقابل المشكلات، فلا تنفع الأحلام مع انفلات سياط اللغة التي أطلقها الكاتب ثمّ ارتدّت نحوه، وهذا ما حصل فعلاً، إذ هاجم أكثر من ناقدٍ عراقيٍّ الكاتب ومجموعته واعتبروها “طعنة للإبداع” (حسب حاتم العقيلي) وخصّوا اللغة بالذات بأقسى الأحكام، فهي لغة تريد منازعة الجاحظ والحريري على ألفاظ المداعيس والطراطير والزناطير كما في نصّه الافتتاحي «استرجاع باصورا»، وتماري عالم الألفية والحداثة بعناوين مثل «مزبلة الحواسيب» أو «الإصبع الكوني» في حين تبقى نصوص كـ«التختبوش» حذلقةً لا طائل منها، شأنها شأن النّصوص الأخيرة من الكتاب التي تعاني القِصر ويكثر فيها الإملال، قبل أن ننتهي إلى القسم الثالث من الكتاب المعنون بـ«الحاشية» وهي عبارة عن مقالة توضيحية تفكّك بعض ألغاز المقامة.
بالطّبع لا تُجافي هذه الأحكام النّقدية الصحّة بشكل مطلق، لكنّها تُلزِم الكاتب بنمطٍ معتاد طبع أدبه، فمحمد خضير الذي ينتمي لجيل الستينيّات، لم يفرّط بالواقعيّة منذ تجربته الأولى «المملكة السوداء»(5)المملكة السوداء، 1972 التي صنعت اسمهُ حقًّا، ثم تراكم نجاحه مع «في درجة 45 مئوي» ثم «بصرياثا» وهذه التّجارب لا يمكن لها أن تستمرّ وتؤبّد؛ إن لم يكن بسبب رغبة الكاتب في التّجريب والاختلاف (وترجمة هذه الرّغبة على الورق، قد تنجح أو تفشل) فلسبب آخر هو أنّ عصر الألفيّة الجّديدة والحداثة التي يدعو النقّادُ خضير لاقتحامها والتّخلي عن تلك اللغة القروسطية، نعم هو عصرٌ مفعمٌ بزخرفةٍ شكلانيّة صاخبة تُصادفنا في يومياتنا، ليست التكنولوجيا أقلّها، وهذه الزّخرفة تحتاج لمجاراةٍ كاريكاتورية قد حقّقت أحلام باصورا بعضًا منها.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.