حسين الماغوط
ـ أمشي المسافة نفسها، أعدُّها خطوة تلو الأخرى، أعِدُها بألّا أخرُجَ من أيِّ منها، سأبقى جذرًا يرقصُ هنا، ملولًا مُملًا، أعيشُ كُلَّ غسقٍ أيضًا، بشهوةٍ لِأن أَترُكَ عتمتهُ تنبش ما بقي هنا، تسقيه قبلةً خفيفة، فتنبتُ أمنية بِألا ينتهي ليل بعدها.
ـ سوى أن قلبًا مدببًا ضربَ هذا الجذر وأزالهُ من حلمه، أيقظه ورماه ليحيا كابوسَ يقظةٍ مُذهل، بأن هناكَ برٌّ وراءَ كُلَّ هذا الغرق، هُناكَ برٌّ ووطن وملل آخر.
ربما، لو نستطيعُ البقاءَ خامًا، كدفء حنينِنا الأول.
ربما، كُنا قُلنا أننا نعرفُ ما هو الوقت.
شاهد نفسكَ جيدًا كُلَّ مرّة كيفَ تعودُ الى البيت وحيدًا، تمشي ببطءٍ وحذر كي لا تستثير رغبتكَ في أن تركض أو أن تتوقف حتى لو بدأت عروقك تتضخم درجةَ خنقك.
تمعّن جيدًا بكل تفاصيل الطريق، نفسهُ الذي أغلقتَ عينيكَ عندما قطَعتَهُ سابقًا، حينها عندما ظننت أنكَ ستسقُط ولن تصِلَ حتى إلى الملجأ الذي تحتمي داخله، حينَ ظننتَ أن اللاعودة لكهفكَ قد بدأتْ.
ثم، إياكَ وأن تغفو أولَ الصُبح، انتظر جميع التفاصيل لتأتي أولًا، لا تقم كالعادة بإحصائها وترتيبها لترسو فوقها تراكماتِ الغبار، اتركها كما هي وابدأ بتجهيزِ مكانٍ مناسبٍ لها على الجدارِ خلفك، استعمل أظافرك وأسنانكَ لو استلزمَ الأمر، انتظر من جديد جميعَ هذهِ التفاصيل حتى تعود مرةً أُخرى لتستطيعَ أن تُلقي بِكُلِّ جدران هذهِ العزلة خارجًا، ثم، كُن ما تريد.
انتظر دومًا، و حدّق جيدًا بكل هذا الوقت الذي تقضيه، بكل تفاصيله التي لن تهتم لها مرةً أُخرى، ربما.
أُحبُّ أن أبقى ساذجًا كمراهق، أن أُحبَّ كبحرٍ وأكره كطفل، كبركان، أحزن كجبلٍ يصيرُ قاحلًا، أنفعلُ كشجرة ضربها الريح، أُحب فعلاً لو أبقى بسيطًا هكذا.
حينها، لم أرتدِ قناعًا كالعادة، كُنتُ أنا، طوال الوقت كنت أتحدث وأنظرُ بنفسي لكلّ شيء، لم أفكر بأن قناعًا ما سيلزم لشيءٍ وقتها، ما أثبتَ لي هذا أيضًا أنني عندما دخلتُ الغرفة لم أجد ثملًا يترنح فيها، يحطم الغرفة ويتظاهر بأنه ينصتُ لما أحكيه، كان كحلمٍ واحد شاهدناه سويةً.
أن أصبح أيّ شيء أريده هنا فقط، في صفحاتٍ تبقى ثملةً لسنوات، أستطيعُ أن أصير ما أريد أن أكون، كما قلتُ لكِ قبلاً، أُريدُ كُلَّ شيء، سأصير سحليةً في الصباح، حوتًا في منتصف النهار، عشبًا نديًّا في الغسق، شوكًا صحراويًا في الليل، أن أكونَ عملاقًا لأرسم سماءً أُخرى أكثر قربًا، أعتقدُ من الصعب جدًا أن أصبحَ إنسانًا، سأكونُ هنا قيحَ جُرحٍ غالبًا، سأنتهي كُلَّ يوم من أن أكون ما أُريد وحيدًا، ثم سأستلقي على نفس العشب الذي كنتُه وأهمِسُ لنفسي “كان هذا سهلاً ومسليًا، سأكونُ برداً مُملاً طوالَ يوم الغد”.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.