كانت سماء حمص تثلج بكثافة هذه السنة على نحو غير مسبوق بشكل يشبه رغبتي في المجيء إلى هذا العالم الذي اعتقد بأنه عالم يتقاذف فيه الأطفال بكرات الثلج. اضطر أبي إلى استعارة سيارة أجرة يملكها الجار لاستحالة قدوم سيارة المستشفى إلى بيتنا في حي بابا عمرو المحاصر، فالاتصالات مقطوعة وسيارات الإسعاف مستهدفة.
لم أكن يومها قد بلغت السن المناسب لقدومي! هذا ما أذكره، كانت أمي في الشهر السابع حين فاجأها المخاض بسبب انقباضات شديدة سببها نوبة الرعب التي أصابتها إثر قصف منزل في المبنى المقابل لبيتنا. أسرع أبي بإدخال أمي إلى المقعد الخلفي للسيارة وانطلق مسرعاً، ولدى رؤيته الحاجز العسكري من بعيد خفف السرعة وتوقف عنده …
وبعد ربع ساعة من التوسلات والأسئلة التي أمطر بها رجال الحاجز مر أبي بسلام… بينما تعالى صراخ والدتي من ألم الولادة المتعسرة. وعند وصول والدي إلى باب المستشفى ممسكاً والدتي من يديها ليعينها على المشي سقط إثر طلقة قناص يقف فوق أحد الأسطحة المقابلة للمستشفى، ثقبت الرصاصة رأسه من الخلف، فلفظ أنفاسه الأخيرة … وثقبت صدمة أمي صمت الشارع بعويلها وتوسلاتها لإدخاله عبر البوابة … ولكن ما لبثت أن استوعبت ما جرى، وصبرت لإنقاذ كل ما تبقى لها في هذا العالم.
وبعد عملية قيصرية في غرفة عمليات بائسة وُلدتُ ، وجراء نزيف حاد ولعدم توافر أكياس دم كافية لإمدادها، توفيت أمي بينما كنتُ أنا في الحاضنة مع تسعة عشر من الأطفال الخدج، على ما أذكر، في مقاومة جماعية من أجل البقاء لتحقيق حلمنا بتقاذف كرات الثلج عند بلوغنا سن اللعب. ويتوقف شريط أحلامنا إثر انقطاع التيار الكهربائي الضعيف، وعدم وجود وقود لتشغيل المولدة, فلفظنا أنفاسنا الأخيرة، ومازالت الصورة المشوشة لنواح ممرضة القسم على نحو يائس وعاجز -لاستحالة فعل أي شيء- عالقة في ذاكرتنا ممتزجة برغبتنا في مشاركتكم (الشقاوة) …وصنع رجل الثلج معكم في المستقبل القريب في بابا عمرو
أذاعت إحدى قنوات الإعلام خبر تكذيب وفاة عائلة بأكملها، بالإضافة لنفيها خبر وفاة عشرين طفلاً حديثي الولادة في حواضن إحدى مستشفيات حمص جراء انقطاع التيار الكهربائي ..
في شريط إخباري استمر لمدة 24 ساعة في أسفل شاشة تبث من فترة لفترة مشاهد متقطعة لأطفال في حمص يتقاذفون كرات الثلج فيما بينهم بينما يصنع قسم منهم رجل ثلج كطقس اعتيادي لدى الجميع بمجرد هطول الثلج بكثافة على نحو غير مرتقب! مثل رغبتنا بالحياة في هذا العالم الذي كنا نعتقد أنه مجرد تقاذف لكرات الثلج بين اطفال يضحكون…
..