الصفحة الرئيسية / تجريب / جاموقه – أعطني الناي، وغنِّ

جاموقه – أعطني الناي، وغنِّ

جمال منصور

 

حفاةً
عراةً
في زمهريرِ مصيافَ
قفزنا، بأمرِ الضابطِ الهمامِ الـ زمجرَ
– كعادتهِ، كلَّ صباحٍ –
في الجاموقةِ
المترعةِ حتى الطفحِ
ببولِ/منيِّ/قيءِ/خراءِ العساكرِ القصفينَ اللا-مبالينَ
نخوضُ فيها
برداً
وخوفاً
وحزناً على الذاتِ
وعلى البلادِ،
ككلِّ صباحٍ في ذا المعسكرِ القصيِّ عن الدنيا
بينما
يسبحُ في جوِّ المعسكرِ
صوتُ فيروزَ
مخادعاً
بألفِ صفعةٍ ناعمةٍ زرقاءَ، للروحِ،
سادياً، كأنْ من كوكبٍ آخرَ
“أعطني النايَ، وغنِّ”
وسطَ قهقهاتِ الضبَّاطِ المسعورينَ
الشامتةِ
الهازئةِ
بنا
بهذا الصباحِ الكسيحِ، من أولهِ
بفيروزَ
باللهِ
بالوطَنْ…
[جاموقَهْ—أعطني النايَ، وغنِّ]

 
للتوِّ فهمتُ
على حافَّةِ الأربعينَ،
لمَ لمْ يكلَّ أستاذُ الفتوَّةِ طوالَ سنينَ
منْ زجِّ البارودةِ الروسيَّةِ/وعيارِ جفِّها/وطولِ حربتها/وسعةِ مخزنها/ومداها المجدي، غير-المجدي على الإطلاقِ/وفكِّها/وتركيبها/ورمايتها، بالرشِّ والدِراكِ
في أستِنا
ورؤوسنا
وأحلامنا
وضمائرنا —
كمْ كانَ يعلمُ،
كمْ كنَّا لا نعلَمْ…
[درسُ فتوَّهْ—علِّموا أولادكمُ الرمايَهْ!!!]

 
عشرةَ أعوامٍ
كانَ عمري،
يومَ رأسِ سنةِ الـ 1982
في بيتِ جيراننا، الـ في الملحقِ، أعلى البنايةِ العتيقةِ
في الحارةِ المجاورةِ
ليلتذاكَ
سمعتُ عن قربٍ
صوت أولَ طلقةِ مسدَّسٍ في حياتي
أطلقها ضابطٌ من الساهرينَ
ابتهاجاً
وهو يرقصُ مع إحداهنَّ، ويضحكُ
على أنغامِ
La Danse Des Canards
والشامُ من النافذةِ المفتوحةِ في الملحقِ
بين دخانِ السجائرِ، تتلألأُ من بعيدٍ
كواحةٍ من نيونٍ
والساهرونَ يواصلونَ رقصهم بكلِّ اعتياديةٍ،
أما أنا
فكنتُ سأعتادُ صوتَ الرصاصِ
متأخراً بسنينْ…
[ابتهاجْ—رأسُ السنة، 1982]

 
كانَ غريباً
— ومقزِّزاً، بعض الشيءِ —
شكلُ صورةِ الرئيسِ
الـ غطَّتْ وجوهَ دفاترنا المدرسيَّةِ البلهاءِ —
كمْ كانَ جبينهُ عالياً،
بينما كانتْ كلُّ جباهنا التعبةِ
تقبِّلُ أسفلتَ الشوارعِ
أو أسفلَ بساطيرِ العساكرِ
الـ ظلِّتْ تغطِّي أفقَ دمشقَ ، مذْ خلقنا
والغيمَ
والشمسَ
واللهْ…
[يا بو الجبينِ العالي]

 
أتذكرينَ
يومَ وقفنا
أنتِ، أنا،
على بابِ محلِّ “جوني سالمْ للفيديو”
قدَّامَ حديقةِ السبكي،
كدودتَيْنِ
نراقبُ دوريَّةَ المخابراتِ “تشحطُ” أحدَهم
وتضربهُ بالعصيِّ والأحزمةِ ذاتِ الأبازيمِ النحاسيِّةِ
تحتَ نظراتِ بطَّاتِ حديقةِ السبكي
الشامتةِ
الهازئَهْ؟؟…
[الموعِدُ الأولْ—مداهمَهْ]

 

 
كانتْ تسليتنا اليوميَّةَ طيلةَ صيفِ 1986
حينَ بدأ يصير لنا صوتٌ كصوتِ الرجالِ،
أنْ نقفَ خلفَ الشجرةِ
الـ بجانبِ كولبةِ حراسةِ بيتِ اللواءِ
الأصلعِ
ذي الكرشِ المخيفِ
كثيرِ النجومِ
نصيحُ “منبطحاً!!”
لنرى العساكرَ، بلا أيِّ تفكيرٍ
ينبطحونَ،
كما كنَّا نحنُ/كما كان كلُّ أهلِ الحارةِ/كما كانَ كلُّ أهلِ الشامِ
على الدوامِ
منبطحينْ…
[أوامِرْ—حرسُ اللواءْ]

 
كالخرفانِ
جلسوا بصمتٍ قاعدينَ
على سطحِ باصِ “الهوبْ-هوبِ” الصباحيِّ
على الطريقِ بين “بنجارو” وجبلةَ—
الولدُ الناحلُ السقيمُ المتشبِّثُ بيدِ أبيهِ/مزارعُ البندورةِ، وحِملهُ الـ سيجدُ طريقهُ غلى ساحةِ الشيخِ ضاهرَ، في نهايةِ المطافِ/وعناصرِ المخابراتِ
الـ سينزلونَ من سطحِ الباصِ
لينتشروا، كالغبارِ، في كلِّ الشقوقِ
يراقبونَ أنفاسَ الجميعِِ
وكأنَّهمْ لمْ يكونوا للتوِّ
سوياً
كالخرفانِ، قاعدينَ
على سطحِ باصِ “الهوبْ-هوبِ” الصباحيِّ
بينَ “بنجارو” وجبلَهْ…
[هوبْ-هوبْ]

 
رمادياً كانَ وجهُ السماءِ،
يومَ هربنا من المدرسةِ في الصفِّ التاسعِ،
ونزلنا إلى ساحةِ عرنوسَ
أنتَ وأنا
لكي “نبصبِصَ” على أردافِ فتياتِ المدارسِ
ونأكلَ سندويشاتِ السجقِ
من عندِ “سيروبَ”
ونبولَ على قاعدةِ تمثالِ الرئيسِ
ذي الحذاءِ الأضخمِ من الطبيعيِّ،
من الخلفِ
كي لا يرانا أحَدْ
ولكي نقهقهَ، خفيةً،
كيفَ أنَّ تبولنا الصبيانيَّ العبثيَّ هذا
كانَ آخرَ العدالةِ المتبقيَّةِ لنا
في هذهِ الدنيا…
[تمثالْ—1986]

 

 

عن جمال منصور

جمال منصور
شاعر سوري مقيم بكندا. مختص بالعلوم السياسية في جامعة كونكورديا

تعليق واحد