الصفحة الرئيسية / نصوص / شعر / الطفل عند منعطف النهر (2) – إسماعيل الرفاعي

الطفل عند منعطف النهر (2) – إسماعيل الرفاعي

-2-

 

عند منعطف النهر.. كانت شموع النذور تخدّد وجه الفرات في دروب الخضر، والغيوم تحتشد في أجساد الفراتيات، تفيض على رموشهنّ، حين هدر العشاق باسمهن في ساحات المدينة.. وكان الحور والسنديان وشجر الزيزفون، يطوف من حارة إلى حارة.. تتجمهر على أغصانه البلاد مزنّرة بشقائق النعمان.

وكان الزمان زمان الحكايا والأساطير: امرأة تعلق على السماء شالها، يتشبث ولد النهر بظلها الهارب.. تخلع على جسده باقة النجوم، تهدهد له في ليل طفولته، يسند رأسه على أقمارها

ليصحو على رذاذ الفرات.

وكان شاعر يقصم ظهر العروض، يفتّت القلب بعبارة ساحرة، يخطها بسبابة الكشف على حائط غرفته المتداعي، يمزج السماء بالأرض على قصاصة من ورق الروح، يبوح بالسرّ كلّما همّ بالكتابة، يترك نفسه على سجيّتها، يُضيّق الرفاق على المعنى، وتتسع المدينة.

وكان سليمان الكواكا، يكتب على السبورة أسماء تلاميذه، يترك لهم على مقاعد الدراسة حبات من بلح الثناء: الأول تقدم به العمر في زنزانة مفردة، والآخر تقدم به الوطن في المنفى، والثالث قضى في النشيد.. وآخرون على حالهم أضلوا الطريق إلى الحياة.. وكان لا يزال على حاله يكتب حروف صغاره مضمومة بسعف النخيل، حين اندلعت السبورة بالأحياء والبلدات والقرى.

وفي خيمة العزاء.. كان الشهيد يصبّ القهوة المرة لأخوته الشهداء، وزفّة كانت تغصّ بالزغاريد في الحارة المجاورة، تنتظر فيها العروس عريسها كي يعود بمهرها الموعود.

عند منعطف النهر، حزم الطفل في حقيبته قاراته الخمس، قفز سور المدرسة وتوارى في ظلال التوت، وكانت أمه تنسج له من صوف يديها كنزة الشتاء، تنادي عليه بسرب حمام أظلّ الطريق إليه، وكان صوت ينادي: عد يا ولدي حان وقت رحيلي فهذي الظهيرة أقفلت علي دروب المساء.. لا قمر لي سواك بعد الآن يا ولدي، فعد قليلاً كي أقص عليك الحياة.

 

(من دفتر الطفل)
٢٩/٩/٢٠١١

إسماعيل الرفاعي

.

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.