-3-
وكان ولد النهر غائباً في النهر.. يطوف على عرائش العنب، يزرع الفتنة بين حقل الجبس وشجر الرمان، يطوّب السنديان باسمه، يقطّر حليب التين على ثآليل يديه.. يعدو من ضفة إلى أخرى،
خلف حورية أخلف معها الميعاد صيفاً بأكمله.. وفي كل مرة يسجل فيها سليمان كواكا اسمه
في دفتر الغياب، يجنّ حارس الفاكهة، تهبّ على المدينة رائحة الذرة المشوية،
ويعلو صوت شجار على الضفتين.
وكان ولد يحرق مسوّدات حلمه على سطح بيته، تتشمم سيارة الأمن رائحة دخان معارض،
تلقي القبض على الرّماد، ويلوذ بالفرار.. وكان ينصب تشكيلة السكاكر على ناصية الحارة،
يبادل الحلوى بالقبلات، تتمنع سناء أول الأمر، وتخطف حفنة من القبلات في غرفة الساكن.
وكعادته يفتح الليل أبوابه للحنافيش والسعالي، ويسرج المهور لستّ الحسن والشاطر حسن،
وكعادته يوقد السراج للجارة العمياء كي تستدل على عمرها الضائع،
وكعادته الليل يقذف بالجنيات من سطح الجار على حبل الغسيل.. يتأرجحن بشدّة،
يشددن شعور بعضهن، يرتدين قمصان الصبي المبللة، صداري مدرسته،
يملأن الأرض بصراخ لا يسمعه أحد سواه..
وكعادته يستبد به الهلع، ويضحك على نفسه في الصباح.
وكان ياما كان.. كانت صفائح الجسر الحربي، مركونة على الشاطئ، يصفر فيها الريح..
يقرعها الهجانة بأعقاب بنادقهم الفارغة وهم يفتشون عن الخضرة المهربة،
ويلوذ بها العشاق آخر الليل..
وكان حلم لا يحول ولا يزول.. أن يفيض الفرات على البلاد كلها،
وأن يندلع ياسمين الشام في حويجة الدم، وأن تستعيد نصرة جديلتها، وخالصة مصباحها،
وتستعيد ليلى ثديها المجزوز،
وأن تجمع أمي أولادها وبناتها في لحظة الوداع..
وأن أعود إلى النهر، كي أضمّ الولد الذي تركته هناك كل هذه السنين،
يبحث في حبات الرمل عن كراسة الدراسة، وعن أسماء زملائه الضائعين،
وكي يسجّل في تقاويم العمر يوماً لم يعشه،
ولحظة كان ضائعاً فيها، حين نادى صوت عليه: عد يا ولدي كي أراك قليلا..
وكي أتلو عليك سورة الرحمن، وأحصنك من عين العدو والصديق،
وكي أمضي ياولدي في سبيلي دون غصّة في القلب.. وأخبرك بأن ولد النهر ما زال على حاله، طافحاً بالنهر
يا صغيري.
(من دفتر الطفل)
.
إسماعيل الرفاعي
30/9/2011
.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.