الصفحة الرئيسية / نصوص / رأي / شجنٌ لا يفهمُه الغرباء

شجنٌ لا يفهمُه الغرباء

أحمد أبازيد
 

قد ينخر في عظمنا حزنٌ لا تعرفه صور الأشعّة .. دفءٌ لا تفسّره الفيزياء في فراش الشهيد .. وحدها الأمّ تحسّه و تلجأ إليه من برود الشاشات .. وحدها لمست خيط الغيب .. وحدها يملؤها الغياب

و قد تنهشنا هشاشة الموقف أمام شهيد يبحث عن أغنيته الأخيرة بين أيدي الملائكة : هل أكفّنه بمنديل البكاء .. أم بصرخةٍ لا يفهمها الباعة في الطريق … ربما من الأفضل أن أغنّي معه .. قد يغضب لو وقفت لأضرب التحيّة بحزم كما يفعلون أمام النسر الآمر بالموت .. !

نخبّئ وجوهَنا آخر الليل .. ملآى بشقوقٍ لا تراها المرايا … يخمشنا الندم : لم أدهش كفايةً أمام المجزرة !
نستعجل القيامة قبل الفجر … تنهكنا قبل الحلم خطايا لم يكتبها رقيب الآخرة : ضحكت أكثر مما ينبغي … انشغلت بالخصر العابر عن تذكّر اسم شهيد داعل .. لم تكتب في تهنئة زواج صديقتك عن مظاهرة دوما … لم تنتحب في السوق حين وصلتك الرسالة ” 53 شهيداً على الأقلّ ” خفتَ على أناقتك , كلّهم ماتوا بثياب لم تعرفها المكواة , ولكنّهم على خلافك عاشوا بوجوه لم تعرف أقنعة الستر .. سمعت أم كلثوم أكثر من الساروت … كانت وجوههم متشقّقةً وراء المذيع بينما تشرب شاياً لم يعرف طعم الملح !

في كلّ يوم – نخفي ذلك حتى عن أنفسنا – تتجاذبنا شهوات لم يحتلْ لها الشبق … تغرق في عمق الآهات .. و تجتاحك هستيريا حركات لا تفهمها الأيدي في أوج ما اشتعل بك من الجسد الممدّد … و تعضّ على الشفتين … و تصرخ : لماذا لم تجعلني مكانه يا قدر الرصاصة .. ؟!
شهوة الألم أن تكون رقماً في شريط الأخبار يبكي عليك من لا تعرفهم … شهوة المكبوت لو لم يكن الهتاف الأوّل و ارتحت من عبء إحصائهم كلّ مساء … شهوة الفجيعة لو خُلقتَ حزاماً ناسفاً حول خصر الحكم … و الخصور الكثيرة التي تحمله فوق ركام الجثث … شهوة النسيان لو بإمكان طعم الماء أن يخلو من النزيف … شهوة الوطن : ألّا ينساك من حفل الخالدين !

كان فرحاً لا تتقنه السينما حين اجتاز بربطة الخبز الحاجز الأخير .. قبل منعطف العائلة الضامرة .. سُمع صوتٌ اعتاده منذ شهور .. ربطة الخبز ما زالت ساخنة و شهيّة من أثر الركض .. لم يغيّرها الصوت … لكن في جيب الصدر الذي وضعت فيه الفكّة الباقية في القميص الواسع … كان ثمّة ثقبٌ جديد … غدا نبعاً … لم يأكلوا خبزهم اليوم .. لكن الوطن تدفّق بشهيّة لا يعرفها من يشربون العار !

كانت رسالةً لم يكتبها الدم … كان قد جفّ و تيبّست طبقات لا يروي عنها الطبّ على اليد التي هرستها -قبل الغيبوبة- كراسيّ و بساطير لم يذق غضبها ترابُ الأعداء … في التحقيق لم يبحث عن باب للنجاة … ولا عن لحظة النهاية – هناك كلّ لحظة أبد – …. و كان قد يئس من ملاك الموت منذ صعقة الكهرباء الأولى على عضوه الذكري … كان يبحث عن سؤال !
الكتابة على جدار الانفراديّة تتجاوز ترف الضرورة … الكتابة هناك معناك الأخير المتبقّي من مفهوم الإنسان .. وسيلتك الأخيرة لتمسك سيولة الزمن .. بالمتبقّي من الظفر الأخير … !
جروح كثيرة في مدفن العتمة و السكون المطلق .. لم تعرف رفاهية تأمّلها عيناه .. سيفلسف الأمر في هلوساته التي أضحت الواقع الوحيد و يقول إنّ ما لا تراه لا يكون … يحمل وجهاً لم يعرف بعد آخر أشكاله … في الانفراديّة ليست الجدران وحدها ما تستخدمه للكتابة … !
كان طالبَ فيزياء لم تعرفه امتحانات السنة الأخيرة … كان قد انشغل بامتحان آخر … أثبت فيه لأنشتاين في محاوراتهما الطويلة أنّ الزمن مثل الرصاصة مثل القلب مثل الضمير مثل الوطن يتوقّف أيضاً …

كان طفلاً لم تعرفه المدارس … فيه كلّ ما في الأطفال الآخرين : ضحكاته البلهاء , عضوه الصغير , بحثه عن اللعبة بين الأيدي التي تتلقفه , بكاؤه حين تدخل أمّه الحمّام , و عبثه بفتحات الكهرباء … كانوا جميعاً يبكون بينما ملأه وحده الصمت .. بين السكّين و الرقبة مسافةُ أمل يمزّقه الفزع … بين الحدّ و الشريان حشرجة الهزيع الأخير … بين العين و بريق النصل يتناثر بجنائزيّة أوراق الخريف ضوءُ العالم .. !

كان طفلاً صغيراً … حرس سكونه طويلاً أمام ضجيج و صيحات و انبعاثات دم لا يفهم منها شيئاً … حين أمسكته اليد الأخرى كمساعد ذبح يتقن عمله .. لم ينس عضوه الصغير أن ينفّذ المهمّة الكبرى :
تبوّل علينا جميعاً !

تعمّدنا القيامة .. لا لشيء .. إلّا لنحطم ما اتخذه الجحيم من مكياج الزيف .. و ما غُطّيت به الجنّة من أردية الخوف … قمنا من بين الصامتين .. و شربنا من كوثر الهتاف .. و سلكنا صراط الدم حدّ اعتياده … فقط
و سنبلغ الأبواب كاملين بكلّ ما نقص منّا في الطريق !

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.