وجع السويداء

.

.

.

.

.

رسالة مغفلة الإسم من السويداء

.

.الفقراء ملح الأرض… والمدن الفقيرة ملح أوطانها… وأبناء الفقر ملحٌ لطعام الأوطان، ووقودٌ لحروبها الكافرة!
هل يعرف هذا الوطن المنكوب وجع مدنه الفقيرة؟!
هذا الوجع الذي جعلها تدخل في محنته المجلجلة من بوابتها الخلفية؛ فتصير جريحةً مرتين: ثانيهما أنها في الظاهر خارج سياق… الحدث! وأولاهما أنها تتلقى خساراتها الفادحة بصمت المقصّر الخجلان!

.

نعم، يعرف الوطن ويرى و يسمع… يعرف أن السويداء لم تكن يوما خارج خارطة الوجع. وأن القذائف التي اصابته أصابتها؛ وإن لم تأتِ طاعنةً في القلب؛ إلا أنها وخزت صدرها الذي ينوء من قبل بمواطن ضعف مزمنه! منذ أن اشتغل الأسد الأب على أمرين (أتقنهما) في حياته وأورثهما (بأمانةٍ) لابنه من بعده: ” احرص على استرضاء أبناء هذه المحافظة ، و احرص على إبقائهم فقراء أو مكبلين بقيود الكفاف وليظلّوا مربوطين بعقالك!”
وهذا ما كان… توارث معظم أبنائها عبر جيلين السابق والحالي إحدى مهنتين:

الأولى: الاغتراب!…منذ أن يشبوا لا هاجس لهم إلا السفر ..تهيئ لهم أرضهم كل أسباب الرحيل عنها دون أسف!…تنمّي لهم أجنحة تأخذهم حتى إلى أكثر البلدان كآبةً في القارات السبع بمجرد أن يومئ لهم ـ أي بلد بأن ثمة لقمة للعيش فيه… يحملون شهاداتهم الجامعية التي يعلمون أنهم قد لا يعملون بموجبها ويرحلون المهم أن يعتاشوا ؛ و الأهم أن يرسلوا لأسرهم ما يقيم أودها! و لا يعودون إلا عندما تنتهي صلاحيتهم؛ أو عندما تتنمرد حكومة البلاد (المضيفة) على حكومتنا و تعاقبها بهم وفق تقلبات السياسة !

 .
و ما أكثر من لم يعودوا أبدا ؛ أو عادوا جثثا في توابيت أو ظلّت جثامينهم حيث كانوا…

..
و ثانيهما: الوظائف الحكومية لمن يظفر بها كمكرمة يُحسد عليها .. في صدارة هذه الوظائف، التطوع  في وزارتي الدفاع والداخلية التي تستوعب كل مَن لم يتموا تعليمهم، وكل من خاصموا الطموح، وكل من لا يطمعون بترقية أو منصب، وكل من جل همهم انتظار الراتب في آخر الشهر و”البخاشيش” التي تردف الراتب الضحل حين يتسنى لهم ، وكل من يراوغون الخدمة الإلزامية كي لا يقضوا سنتين من أعمارهم عبيدا للضباط المسؤولين…
وهؤلاء لا يعرفون سببا يثورون من أجله على ولي نعمتهم في حاضرهم الراكد؛ لكن الآمن بقي أصحاب المهن الحرة والمياومون؛ جماعة “أعطنا رزقنا كفاف يومنا!”، واصحاب منشآت القطاع الخاص المحلي الذين لم يصل أحدهم يوما إلى مرتبة (الحيتان) لأسباب نعرفها جميعا!

.

ولا يخفى على أحد أن طلاب المدارس والجامعات وحملة الشهادات العليا من معلمين وأطباء ومحامين ومهندسين واساتذة جامعات لم يتوصل أحد منهم بالكسب الحلال إلى اية ثروة تذكر ! وقد سار من هؤلاء كثيرون في درب الثورة – خرجوا إلى الشارع ليس في السويداء وحدها – بل كانوا حاضرين مع إخوتهم في ثورة الحرية والكرامة في درعا وحمص ودمشق وريفها وتصدى لهم الأمن والشبيحة والمخبرون ضربا واعتقالا وتهديدا ولا زال كثير منهم في السجون في دخول و خروج … أما المغتربون على اختلاف أماكن شتاتهم فلم يكونوا أقل من أنداد لإخوتهم السوريين من كل طيف! وقفوا معا بأصواتهم وأقلامهم ومنابرهم وأموالهم وكيفما استطاعوا…
.
ولمن لا يعلم، السويداء لا تحب استيلاد الكثير من الأولاد ولطالما فخر مشروع تنظيم الأسرة بنيلها المركز الأول دوما في تطبيقه!! تنجب الأسرة ولدين…ثلاثة ..وقليلا أربعة بين ذكور وإناث… ومن هنا فرصيدها البشري محدود… نحن اليوم نستقبل كل يوم من أبنائنا شهيداً وأكثر…. نعم نحن نرقب نقصان هذا الرصيد القليل! رصيدٌ نادر يترك خلفه أسرا مشرَعة لليتم والبرد والفقد والوجع و فيض الأسئلة الغامضة! و سأسميهم شهداء !

نعم شهداء في معركة ليست معركتهم… معركة غُرّر بهم فأقحموا بها… لم يكن واحد منهم صاحب قرار فيها؛ بل كانوا جميعا وقودا لها و دريئة يحتمي قادتهم خلفها…

.
سأسميهم شهداء المعركة التي مات بعضهم قبل أن يدرك أنه يقف في الجهة الخطأ … و بعضهم عندما أدرك ؛فأصابته رصاصةٌ من خلف! سأسميهم شهداء باسم شبابهم الذي انطوى عبثا… باسم محافل جنازاتهم التي لم تترك الحكومة “الرشيدة ” فيها فسحة لأهلهم كي يقيموا عزاءهم كما يليق بمن فقد عزيزا وسندا ورجاء! شهداء بيقين الشهادة التي انتُهكت… ولكنها في النتيجة أردتهم جميعا موتى! في حين كان الأهل ينتظرونهم عائدين أحياء بعد انتهاء الخدمة أو شهداء فدى الجولان…أو فلسطين

..
نعم ! حتى في جنازات الأبناء نُحّي الأهل و بادر الـ “منحبكجية” إلى الحداء وإجبار الأم على الزغردة في عرس الشهيد الذي قاتل “العصابات المسلحة”! ولم يسمحوا لها أن تنعزل ليتسنى لها أن تبكي بصمت!
… أجبروها أن تصرّح للإعلام أن ابنها الذي قضى وباقي أبنائها ـ على قلتهم ـ  فدى “لقائد الوطن” فانتهكوا حرمة ثكلها مرتين… وانتهكوا كل ما بقي لها من العمر والأمنيات إلى أن يوافيها الأجل… نحن الأحياء نستعير الآن حيواتكم أيها الشهداء ـ كل الشهداء فوق كل شبر من تراب وطننا الواحد… نعتذر منكم ونقبل هديتكم الكريمة المبذولة طوعا مهرا لحريتنا… ونكمل حياتنا بالنيابة عنكم؛ .. فيما الحياة لا تُهدى! وقبولنا إياها كهدية يزيدنا ضيما على ضيم… نعرف أننا ما زلنا على ضفاف المحنة ، ولم ندخل مفازاتها بعد… ما زالت أقدامنا تدب بحذر على شواطئها الضحلة…

.
لكن: رب ضارّة نافعه!
فالهدوء والأمان( النسبيان) في السويداء جعلا منها رئة ومتنفسا لأهلنا من درعا وريف الشام يتزودون بالمؤونة الضرورية التي قد لا تتوفر لديهم حتى بوجود المال … وملجأً لأهلنا من جميع المحافظات السورية الذين لم يكن امامهم إلا النزوح عن أراضيهم مع اشتداد القصف أو الملاحقات… والنزوح نزوح ! النزوح موتٌ صغير… النزوح مهانة…النزوح …لا تسعفني اية مفردة …إلا أن بقاء النازح في حدود وطنه أهون قليلا من عبور الحدود إلى الاردن أو لبنان أو تركيا… الآلاف الآلاف منهم صاروا هنا بيننا… وهم أهلنا وامتداد أسرنا ولهم ما لنا ، وإن كنا نشعر بالتقصير أمام فداحة ما يعانون… نتقاسم وإياهم ما بين يدينا…تستضيفهم البيوت والمزارع والأحياء القصّية لتقصيهم عن عيون المخبرين… وتفتح البيوت أبوابها للملاحقين والجرحى مع كل المخاطر النازلة بمن يفعل…ولن أخوض في تفاصيل المساعدات مخافة ـ معاذ الله ـ أن يُجرح شعور أيّ من اهلنا… سيعودون يوما إلى مدنهم وقراهم ومآويهم … وسيحكون .. سيقولون ما في ضمائرنا

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.