الصفحة الرئيسية / نصوص / شعر / الطفل عند منعطف النهر – ٩

الطفل عند منعطف النهر – ٩

اسماعيل الرفاعي

١٠ تشرين الأول ٢٠١١

٩-

في ملَقَا.. في الحي الصيني القديم ، أبحث عن حبر  لاوتسو في دكاكين الحكمة، أتأمل مخطوطات الأرز الممهورة بتوقيع كونفوشيوس وصمت بوذا الدامغ.. تخيم ظلال الأسقف المجنحة على الشوارع الضيقة، وتشع الفوانيس الحمر في عيون التنانين المحفورة على مداخل الفنادق.. تستوقفني هندية توزّع أعواد البخور على المارة، تعدد لي أسماء بوذا، أدلف إلى المعبد.. بوذا بأذنه المتدلية، متربّعاً في ملاءة من الذهب، تحفّ به خراطيم الفيلة المحفورة من خشب الصندل، وعند يديه حفنة من الرماد، ينظر إلي بعينين باردتين..أوقد له بخوراً بأصابعي المشتعلة، وأمضي..

المطر لايتوقف، غيمة الاستواء خفيضة هنا.. وكأنها شجرة من أشجار آسيا، ينحني الجسر كذراع حجري على نهر بيرتام، تتفرع أصابعه القرميدية خارج الحي الصيني.. طاحونة للصور التذكارية على اليمين، كنيسة تقف كتفاً إلى كتف مع مسجد تاريخي باذخ، ينتصب بزجاجه المعشق ومئذنته المالاوية، ألمس بكفي أثر حروف عربية على جداره، وألتقط صورة لسرب من عصافير الدوري يتجه إلى الشمال.. أتبع رفيفه.. وأقف متسمّراً لغرّاف النهر العظيم.. نواعير حماة هنا في ملقا..

نواعير حماة، نواعير ملقا.. نهر العاصي، نهر بيرتام.. أطبقت الأنهار علي فجأة.. وأطبق صوت القاشوش على المكان، دخت.. دارت الدنيا من جديد.. وأردى الصياد رفّ الزرازير من جديد، تناثر ريش القطا، سقط أحمد الجمول من على نفسه، بصق أيمن الحمش الدم من فمه، ونفض عن جثته التراب.. هرول معاذ الركاض، تعثر، نهض، أطلق هتافة الأخير، سال دمه على عنق أخيه.. تناثر رذاذه على نواعير ملقا، أنّت له نواعير حماة.

تختلط الأزمنة والأمكنة.. من الحي الصيني القديم إلى دير العتيق، من ماء يسيل على الرخام هنا، إلى نافذة الدم التي تفور في بلادي.. الطاحونة تدور، عنفات الناعورة أيضاً، عجلة دندش، وعربات محمد الكلاش المصنوعة من الأسلاك، الزحافات الهابطة من العلوة إلى مسجد الوسط، والكواكب أيضاً تدور على أقمار بزغت في ليل بلادي.. تنفر عصافير الدوري من جديد، وتنحسر سحابة الاستواء عن كتفي.. يتوهج نثار من الذهب على مياه بيرتام، ينزع الطفل صدأ الأيام عن روحه، يتسلق صفصافة على ضفة الفرات، يسحب نفساً عميقاً.. يصرخ بأعلى صوته.. واحد.. واحد.. واحد، يشق صدر السماء، ثم يقفز في لجة النهر.. يتناثر رذاذ الفرات على المدن كلها، يتردد الصدى في أرجاء الأرض.. الشعب السوري واحد.

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.