عصرُ الجُمعة:
خرادقُ صغيرةٌ مرشوقةٌ على السفح اليساريّ لوجه زينب. تبدو كوشمٍ سرياليّ خطّه زيّانٌ مبتدئ، نزقٌ، وغير موهوب.
بين الخرادق الشامتة عينان مطبقتان على حبيبات الرمل، وجرحٌ موسّخٌ مشرشَرٌ يستقوي بكِبره وعمقه على طراوة وجهها. سفح خدها الأيمن بضٌّ وصافٍ. ربما؛ وقبل هذي الخرادق، كانت مشروع صبيّةٍ فاتنةٍ يقودها لهوُ العمر صوب مصائر النساء.
ينام جسدها الصغير الباهت في غيبوبته اللذيذة على سريرٍ نقّالٍ في ردهة المشفى، تصطفّ حوله، وتؤنسه أجسادٌ أكبر منه أو أصغر سافرت معه على ظهر الشاحنة الصغيرة من بصرى الشام إلى مشفى السويداء الحكومي. تنتظر باستكانةٍ قدوم الطبيب غير المناوب، لتعتذر عن إزعاجه في يوم عطلته، وعن هندامٍ معفّرٍ دامٍ لا يرقى إلى أناقة هندامه؛ قبل أن تطلب منه إثبات واقعة وفيّاتها الجماعية. لو فعل؛ لأمكنها أن تنسلّ من الردهة، وتعيد اصطفافها في برّاد المشفى فترتاح هناك من خنقة الحر، ومن فضول العيون العابرة.
موتى… جميعهم موتى… لا نبض إلاّ في عنق الوجه المخردق ! يجفل الطبيب إذ يجسّ النبض، فيخطف زينب كأمنية مستحيلة. يهرّبها من ردهة الموت إلى غرفة العمليات… يطلب نقل دمٍ إسعافيّ، يمزّق بيجامتها الحمراء المبلولة ليكشف بطنها المتخشّب إثر نزفٍ داخليّ. يرشّ عليه اليود المعقم بسرعة البرق قبل أن يشقّه بمشرطه المستبسل، ويغرف منه الدم السابح خارج معدتها المثقوبة، يخيطها بعد أن يستخرج منها قطع إسمنتٍ كبيرة جعلته
يجفل من جديد:
من أين جاء الاسمنت إلى معدتها ؟! لا بدّ أنها ابتلعته أثناء صراخها، وانحدر كأيّ طعام نحو المعدة التي تمزّقت وهي تحاول هضمه.
صباح الجمعة:
زينب تقطف العنب من دالية البيت. تخشخش في يديها أساور التنك، وترقص على خشخشتها العناقيد الحمر. تنادي أختها آية لملاقاتها إلى الباب في اللحظة التي يسقط فيها من بطن الطائرة برميلٌ قذر على سطح البيت، يخترق بيتَ عمها في الطابق العلوي ويقعى في طابقهم الأرضيّ. يشهق البيت، ويشهق العالم في قلب أسماء( أمّ زينب ) وقد رأت في لحظةٍ خارقة بانوراما القيامة: يدُ آية معلّقة إلى الباب بعيدا عن جسمها الممعوس. زينب تحاول احتضان آية. وجه وحيدها “عبد اللطيف” يشبّ فيه اللهب. حديدةٌ تهاجم رأس حنين ـ أصغر بناتها التي ترضع بنهم ، تعض حنين حلمة أمها بعنف قبل أن تفلتها إلى غير عودة، و ترتدّ إلى الخلف مفسحةً الدرب لبلوكةٍ كبيرةٍ لتحط َّعلى يد أمها اليسرى فتفلت منها حنين الدامية. لا ترى الأم باقي البنات، ولا تفيق بعدها إلاّ في المستشفى!
جدّ زينب في صلاة الجمعة في المسجد. ترتجُّ الساعة الذهبية المعلقة الى صدره مع صوت الانفجار. يذهل عن صلاته. لا تستقيم الصلاة مع رجفة القلب. متحاملا على خجله من ربّه يركض إلى البيت. على أطلال بيته الهابط يهبط هو الآخر و يرتخي. تميد عيناه بين بسمة ذاهلة وحسرة ساكنه. تصير إطباقة جفنيه لا وسنى ولا صاحية. إطباقةٌ يذوقها المرء مرّة واحدة في موتٍ او في شلل…
يركضُ جارهم إلى الحاجز القريب. يركع ضارعا أمام الجند علّهم يطلبون من رماة النار أن يوقفوا القصف فقط لحين انتشال الأحياء من الركام. يصغي الجنديّ بأدب، ينتحي ويشغل اللاسلكي ويعود بالجواب:
ـ تكرم عينك، بعد ساعة سينتهي القصف…
مرّت الساعة…
الطابق العلوي: موتٌ عميم.
عمّ زينب مضغوطٌ في مكانه، في كرسيّ شلله القديم، منذ عاد من الخليج بإصابة عمل، وتعويضات مجزيةٍ عمّر بها هذا البيت له ولأخيه والد زينب. تنضغط فوقه زوجته التي ربما هبّت لنجدته. وعند أذيالهما ولداهما يتماهيان مع إسمنت البيت وحديد سقفه…أسرةٌ مُحِبّةٌ لم تفارق إلاّ جماعةً!…
جدّة زينب التي كانت تتقهوى عند ابنها انقطع رأسها. لكنها لم تحظ َ بكاميرا تصوّرها من غير رأس، و تمنحها شهرة فتاة كفرعويّد!
عمّة زينب هناك أيضا. مقسومة إلى أقسام ثلاثة غير متساوية، فالقذيفة لم تكن مزوّدةً بمازورة قياس!
الطابق الأرضي: موتٌ و حياة.
ضرّة زينب المرّة صارت بلا مرارٍ و بلا ضغائن. وضعت ابنها الوحيد في حضنها و صعدت به إلى السماء العادلة.
أسماء و ابنها و من تبقى من بناتها راحوا إلى المشفى.
يوم السبت:
أفاقت زينب. انشلحَتْ من حول معصمها أساور التنك. حلّ مكانها ثقبٌ أزرق توصِل الإبرة منه مصلَ الحياة إلى دمها. يؤلمها الثقب. تؤلمها عيناها المقروحتان بالرمل. تبكي فيؤلمها جرح بطنها. يؤلمها رأسها الثقيل،. تؤلمها المراييل البيضاء الغريبة الشاخصة إليها. يؤلمها أنها لا تعرف أين هي، و لا تعرف لماذا عليها ان تكون وحدها في مكان غريب . يوم الجمعة مطموس تماما من ذاكرة زينب.
يرفع الطبيب عنها غطاء السرير فتجفل: أريد ثيابي! ينتبه الطبيب أنها عاريةٌ إلاّ من حفّوظة الطفل السعيد، ورباط شاشٍ طويلٍ من لزوم المشفى ربطت به الممرضة شعرها الطويل المحنّى بدم يابس. يرسل الطبيب من يشتري لها بيجامة، وثيابا داخلية ومنشفة وصابونة، وربطة شعروكلبا زهريّ اللون أحبته زينب وأرقدته إلى جانبها وبدأت تركن إلى يد الطبيب وهو يغيّر لها ضماد الجرح. ويساعدها على الوقوف لتبدأ حياتها التي كادت أمس تنتهي. حياة زينب: أمنيةُ الطبيب المستحيلة التي لم تعد مستحيلة.
.
يوم الأحد:
يرافقها الطبيب لرؤية أمها في قسم الإصابات العظمية. على الطريق القصير تستعيد زينب بعضا من جلالة ربّ الأسرة الصغير الذي صارته منذ ستة شهور. منذ عاد والدها من السجن في كفن. أخذوه عن الطريق أثناء عودته من وظيفته الحكومية ليعترف بأسماء الإرهابيين وأماكنهم. صمد أمام( أولي الأمر) عشرة أيامٍ ضربوه خلالها بسخاء، وقطعوا عنه إنسولينه الذي يحييه منذ كان في العشرين. اختار أن يموت بفائض السكر لا بعار الخيانة. لم يلحق أن يوصي زينب بأمها وأخواتها وأخيها. هي التي اختارت شَغل مكانه الفارغ: ترعى البيت وترعى إخوتها، وتواسي أمها الضعيفة حتى قبل أن تصير أرملة. اليوم أيضا تحتاج أمها إلى بسمتها.
أفاقت أسماء من سكرة رعبها على سرير المشفى، وفي يدها اليسرى سيخٌ معدنيٌّ دسّه الجرّاح ليسند به ما تفتّت من عظام يدها. تتغطّى بمريول المشفى الأخضر، تحته حمّالة صدرٍ مهترئةٌ صارت تضيق بثدييها الفائرين بالحليب الغاضب من نكران حنين لوفائه، وسروال داخليٌ كان أبيض قبل أن يعفّره الرمل. ذات‘ الزيّان رقش وجهها ووجهي أميرة وبراءة ـ بوشومٍ أقل إتقانا. براءة ذات السنتين تنام بحفوظتها ، وأميرة بأعوامها الخمسة تتغطّى بالشرشف. ما زالت أميرة تظنّ نفسها جميلة. تمسك بيديها الموبايل، ترسل منه نداء استغاثة إلى( بين ـ تن )الذي سيسحق الأشرار، و نداءً إلى (سبونج بوب ) ورفيقه ( بسيط)، تزوّدهما بتفاصيل خططهم القادمة معا ، ثم ترمي الموبايل، وتسرح في الأعراس التي تملأ رأسها، لو تعود إلى صالون البيت و تضفر شعرها بورود بلاستيكية كانت تسرقها من المزهرية المصمودة عند الزاوية ، وتسرق شلحة أمها الدانتيل الزهريّة، وتصير عروسا على أخواتها أن يتركن دروسهنّ و يغنين لها، ويلتقطن لها الصور الوهميّة بوضعيّاتٍ يوحى لها بها هذا الرأس المشاغب.
في الطابق الأعلى يرقد عبد اللطيف البردان في حروقه. أفاض الزيّان في وشم وجهه فطمس شفتيه و أنفه و عينيه. طمس وعيه أيضا. ظلّ في غيبوبته حتى صباح اليوم. صحا مرعوبا على صوت الرصاص في ساحة المشفى ابتهاجاً بتشييع شهيد الجيش. انتفض، قفز وانزلق يختبئ متقوقعاً تحت السرير. لا أحد يعرف كم بقي هناك يسقي بلاط المشفى من ماء حروقه، ومن دمه الذي يقطر من الثقب مكان إبرة السيروم الذي انزلق من وريده، إلى أن استدرجته الممرضة و عاد إلى سريره يطلب رؤية أمه أو زينب، يناديهما أن تشعلا الضوء كي يرى. يتكزّز وجهه و لا يرتخي. عبد اللطيف الآن أعمى.
.
يوم الثلاثاء:
توقف القصف في بصرى الشام. أتت جرّافةٌ و اقتلعت ركام بيت العائلة بإسمنته وأغراضه وبقايا لحم أهله. لم يكن ممكناً إنقاذ شيء. نقلته إلى حفرة كبيرة ، أسوة ببيوتٍ كثيرة، وبكوماتٍ من الأكياس السوداء التي من بينها فتاتٌ ل300 آدميٍّ كانوا معا في قبوٍ للّجوء سقط عليه برميلٌ قذر.
.
يوم الخميس:
أسماء تنهض من سريرها. زينب بعينيها الصافيتين من الرمل تسند أمها بيدٍ، و بالأخرى تسند عبد اللطيف الذي يستند هو الآخر إلى عكّاز جديد. خلفهم تمشي أميرة و الموبايل رفيق يدها ، ترسل منه رسائل جديدة إلى (سبونج بوب)، تبشّره أنّ عائلتها في رحلة العودة إلى الدار. براءة تقضم بشهيةٍ سندويشة شاورما . جميعهم في ثياب جديدة كثياب العيد ، هدية الطبيب الجرّاح، و يقينه بأمنيته المستحيلة.
أسماء حزينة. تبكي بقلبها المتساقط من جيوبه ابنتان. تقفل بمفتاح دعائها على الجيوب الأربعة الباقية.
تبكي على آية. آية كانت أذكى بناتي. ما مرّ طبيبٌ لمعاينتي إلاّ و تخيّلتُ آية و قد صارت طبيبة بمريول
أبيض.. تبكي حنين . وتبكي أيضا وجعا من وخز ثدييها، و من وخز السيخ الدخيل إلى يدها.. .
أسماء أيضا فرحانة.:
ربّي غير طمّاع! ربّي لم يأخذ من بناتي سوى اثنتين. ربّي كريمٌ! بدأ عبد اللطيف يرى بعض الأخيلة… و قد يعود بصره. لقد أمّلني الطبيب…ربّي رحيٌم! أولادي الباقون لم تُقطع لهم يدٌ و لا رِجل!ربّي رؤوفٌ: سيبني لنا خالي غرفة في دار أهلي ، و سيبني معها مطبخا و حمّاما لي و لأولادي. و سنأخذ الجدّ معنا، إن قبل….
ستختفي حروقنا، و تبقى الندوب….الندوب: لزوم الذكريات كي تظلّ صاحية….
5/ 10/2012
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.