الصفحة الرئيسية / زوايا / هذا الصباح …

هذا الصباح …

من النافذة الخلفية
تكتبها نجاة عبد الصمد
خاص بدحنون
 
 
 

صباحٌ لزريعة الأوركاريا على مدخل البيت، هدية الدكتور مروان، فرحُه  يوم قدوم ابنه الأول والوحيد. عاش مروان بعدها سنة؛ سنة واحده، وصار ابنه في صفه الثاني، وما زالت أشواك زريعته الكابية تحرس بابَ بيتي، وما سرق الشلل العضليّ الوخيم من سنوات مروان…

صباحٌ لرقعة الجلد – هدية الغالية مريم – قبل أن يرميها الشتاتُ في أستراليا بعد طوافها في دمشق وعمّان والكويت. مريم التي لم تنعم من انتمائها الفلسطيني  بأكثر من اسمٍ  وجرحٍ لا يشفى ولا يموت ، وخارطةٍ موشومة في البال صاغت لي نسخةً منها على رقعة جلد عتيق لم تخطئ فيها مريمُ موقعَ القدس، وعلّمتني كيف لا أخطئُه…

صباحٌ لشباكٍ يجلو سهول حوران، ولا يجلو الدخان عن سمائها…

صباحٌ لقفّة قشٍّ ما زالت استدارات صفوفها وألوان عصافيرها حيّةً بالإنابة عن حماتي الراحلة…

صباحٌ لفرو الخاروف الأسمر المتمطّي على أرضيّة الصالة، عطّيّة أهلي الكريمين من دير الزور…

 صباحٌ لأيادي النسّاجين في حلب تتفقد شرشف الطاولة في بيتي مثلما تتفقد أحوال المعارك…

 صباحٌ لطاسة نحاسٍ من سوق حماة القديم خلف النواعير الماضية في برمانها و في عنينها..

صباحٌ لأبريق الفخار هديّة خالي ذي اللحية البيضاء. لم أبكه يوم رحيله لأنه مات؛ أبكي خجلا من عقوقي الذي لم ينصت كفاية لقلبه الأبيض كلحيته حين كان ينبض.

 صباحٌ لطبق القشّ البالي على الجدار.  باعتني إياه ريفيّةٌ كانت ستطعمه لنار موقدها قبل أن أفتديه وأنفض عنه الغبار والعناكب السعيدة في دار أهلها المهجورة.

صباحٌ للوحةٍ طفلةٍ رسمها ابن أختي في روضة الأطفال: شمسٌ و شجرة و دودة ربيع (هكذا قال لي).  وخربش تحتها: (بحبّك خالتو)، بخطٍّ لا يفكّ طلاسمه إلاّ عرّافٌ أو قلبٌ محبٌّ.

صباحٌ لصورة أهلي النادرة الأخيرة عام ٢٠٠٠ ـ آخر مرّة اجتمع فيها الأخوة الأحد عشر في سوريه معاً، قبل أن تعبس الأقدار ويغادر منهم من غادر…

صباحٌ لألعابٍ أطفالٍ كانوا سيربون في بيتنا ثمّ غيّروا وجهتهم…

صباحٌ لقرطٌ ذهبيٍّ نسيته غادة على صينية الضيافة ليلة سفرتها الأخيرة إلى أمريكا وما زالت إذناي تستعيران غوايته من حين لحين بانتظار عودة غادة…

صباحٌ لقميصٍ زهريٍّ سألبسه حين أفتعل صدفةً تجمعني بالرجل الناطر…

يقولون عندنا: لاتغوى الزريعة إلا في زمن الموت؛ صباحٌ إذا لزراريع السجاد والحبق والعطرة تفور خضرةً على الشرفة في هذا الصيف الحارق…

صباحٌ للفصام الساكن فينا…

صباحٌ للصّاحين هذا الصباح…

 

صباحٌ لأهلنا في سوريه، ولأهلنا الذين “عند ربهم يرزقون”….

28/09/2012

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.