الذين لم يموتوا…. رحلوا بحثاً عن شمس جديدة..
بقي في البلدة بضع جثث حية و أخرى ميتة، ينتظرون أن تُفرز لهم أرض جديد كمقبرة..
دخلت كعادتي بدون”قرقعة” فالأموات تثيرهم القرقعة، يبحثون عن أصحابها ويحتفلون بهم.
على أحد الأرصفة كانت تنام طفلة صغيرة، يبدو أن أصحابها نسوها أو تناسوها خلال انشغالهم بالرحيل، تحيط بها أشياء بلا قيمة، علب فارغة وأحذية مدنية، ودمية عليها أثار حذاء عسكري.
الجنود الذين مروا من هنا ينتمون لبلدات ومدن مجاورة، حتى أنّ بعضهم يعرف أشخاصاً بعينهم هنا. سمعت أنّ هؤلاء أمعنوا في قتل من كانوا يعرفونهم.
بعد أن أعلنت الدولة قائمة البلدات الخائنة والبلدات الوطنية التي ما تزال على العهد وأن واجب القرى والبلدات الوطنية، تحرير المكان من أصحابه الخونة. وتم إعلان حالة “الفلتان”عبر الإذاعات الرسمية و قالت الدولة: تعلن الدولة حالة “الفلتان” في جميع أنحاء البلاد حتى إشعار آخر، وعلى جميع المواطنين الشرفاء قتل واعتقال وتعذيب جميع المواطنين الغيرشرفاء والتنكيل بهم وبمن يتعاطف معهم من المواطنين الشرفاء. وتتكفل الدولة بإحلال الظلام وقطع الطرقات ومنع أي وسيلة إعلامية من التغطية ويترك للمواطنين الشرفاء خلق قنواتهم وأكاذيبهم الخاصة، وتهيب الدولة بمواطنيها الشرفاء سلك كل الطرق وإتباع كل الأساليب بما يرونه مناسباً وغير مناسب لتنفيذ قانون” الفلتان” وتتولى الدولة مهمة محاسبة من لم يلتزم.
“كنت حريصاً على ألّا يشفى خيالي، كي لا أرى هذا التساهل فساداً كما يراه صحيحو الخيال إن وُجدوا!!”
وتتعهد بأن القدرة على رؤية الحقيقة وما يسمى بالضمير سيتم إلغائها حتى إشعار آخر، من أجل التشويش على الخونة من عُصبة المؤامرة.
ابتسم الرجل الذي قرأ البيان إبتسامة رسمية تناسب حالة البلاد الجديدة!
لذلك اخترت لنفسي مهمة توثيق عمليات التطهير والآثار الجانبية التي يخلفها الفلتان الوطني. أضافت الدولة لمهمتي أشياء أخرى كتوثيق حالات الإمعان في القتل والتنكيل التي يمارسها المواطنون الشرفاء كي لا نترك لأعداء الوطن فرصة الصيد في مياه الوطن والإدعاء بأن هؤلاء المواطنين لا يملكون من أمرهم شيئاً.
كان يقع على عاتقي وعاتق أمثالي وضع حالات الإمعان في القتل أمام العالم والرأي العالمي، فقد كانت الدولة حريصة على الرأي العالمي ومن أولوياتها إقناعه بأن القتل لدينا نابع من القلب.
ولم يكن الأمر صعباً علي فقد كان الإمعان في القتل والتنكيل يظهر في صوري ووثائقي دون جهد إضافي مني.
حزرت أنَّ جنود الفرقة التي طهرت البلدة محترفون، أو أنهم أصبحوا كذلك نتيجة تطبيق قانون”الفلتان” حيث لم ينج أحد من أهل البلدة، من لم يثقبوا جسده ثقبوا خياله، كانت أخيلة الجميع مثقوبة، كنت حريصاً على إظهار الأخيلة المثقوبة في صوري إمعاناً في إرضاء الشرف الوطني لدولة.
تجولت في شوارع البلدة التي أعرفها، وكنت أتعثر بذكرياتي وخفت أن تعرفني الأماكن.
كلما التقطت صورة، كنت أرى فيها خيالات أناس أعرفهم وأسمع أصواتهم، كانت الأصوات مرعبة لأنها اختلطت بأصوات الحاضر، صوت رصاص بعيد وصوت الموت ورائحته، لم أكن أسمع صوت الموت هنا قديماً، كان يأتي ويرحل بهدوء.
من أين أتى أعداء الوطن بكل هذا الموت؟! لا شك أنه موتٌ مستورد من بلاد أخرى، بلاد المؤامرة.
ليس هذا الموت أصيلاً كما يشاع، فأنا أعرف هذه البلدة و أعرف أن الموت كان غريباً فيها.
عندما أحسست بثقل المنطق في عقلي، وبدأت قدماي ترتجف من حمل جسدي وكل هذه الذكريات التي إنفجرت دون استئذان، لجأت إلى أحد الجنود وكان مشغولاً بكتابة رسالة عشق لحبيبته، طلبت منه مساعدتي وإطلاق النار على خيالي.
وافق بعد أن ساعدته بكتابة رسالة العشق لحبيبته قبل أن يلفظ خيالي أنفاسه الأخيرة
فيما بعد وبمساعدة خيالي المثقوب اقتنعت بعظمة دولتنا، فلولا التساهل الذي يبديه موظفوا الدولة لما استطعت تغيير مكان تولّدي ولا تغيير إسمي وطائفتي.
كنت حريصاً على ألّا يشفى خيالي، كي لا أرى هذا التساهل فساداً كما يراه صحيحو الخيال إن وُجدوا!!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.