وحدي في الكراج هذا الصباح. حشرتُ الركّاب في السرفيس، وطربت لعددهم الفائض عن عدد مقاعده، و رحت أتأمل تذبيلة عينيّ طالبة الجامعة، ورجلَيّ الولد الصغير تحاولان الانزلاق من حضن أمه المحتارةٌ بين احتضانه، و بين شدّ تنورتها التي تنحسر عن ركبتيها مع كل محاولة من شيطناته المقموعة .
(لا تواخذوني. ابني عندو اليوم جلسة أشعة. لو بموت ما راح أجّلها. متت و عشت لحتى بلّش يشفى!)
( و أنا عندي تجديد عقد الوظيفة). ( و أنا عندي بضاعة لازم جيبها). (و أنا عندي اليوم موعد الأبرة بالبيروني).(و أنا بيفصلوني من الوظيفة إذا غبت 3 أيام). ( و أنا عندي محاضرة لطلاّبي بكلية الصيدلة)………
ـ ( ناولونا الأجرة شباب!)
من مرآتي أراقبهم. عيونهم راضية، بل ممنونة. من كان سيغامر بحياته و يسافر بهم من السويداء إلى دمشق بين أمطار القذائف؟!. بسخاء استخرج كلٌّ منهم من جزدانه 200 ليرة (حلالي زلالي). أنا لم أغشّ أحدا منهم. أخبرتهم أنني سأسافر بهم و دمي على كفّي، ولو سلمتُ من الرصاص فقد لن أسلم من الخطف على الطريق. كان هذا شرطنا قبل الانطلاق. هل كانوا يظنون مثلا أنهم سيدفعون الأجرة النظامية( 80 ليرة)؟
بقي عليّ تأمين المازوت. لم أخبر الركاب أنّ خزاني فارغ.
لن أخسر رهان الأمس أيضا. فأنا أقدم رفاقي على طريق الشام. كنا اجتمعنا أمس نحن شلة السائقين، و تباكينا على الحال الذي وصلنا إليه، و خرج بعضنا باقتراحات سخيفة كأن نعتصم مثلا كي تؤمّن لنا وزارة الداخلية المازوت، أو أن نوقف رحلاتنا حتى انتهاء المؤامرة الكونية، أو ـ على الأقل ـ حتى عودة المحروقات، وعودة شبكة الاتصالات، وانتهاء عمليات تنظيف طريق المطار من الإرهابيين.
اختلفت آراؤنا. أكثرنا يريد أن يعتصم في بيته بين أولاده تحت دفء البطانيات. انتهينا إلى رهان مراوغ: من يصل إلى قلب دمشق غدا سيصير زعيمنا.
الكازيّات على الطريق فارغة. على الحاجز الأول بعد ( براق) رفعتُ يدي بالتحية للجندي النعسان البردان. ردّ التحية بحماس حين رأى غالون المازوت الفارغ بيدي اليسرى، ثم استدرك:” بس الليتر اليوم ب: 55 ليرة. صفنتُ قليلا: هيك كثير، من يومين بعتني إياه ب:45!. .أدار رأسه عني: إذا بتلاقي أرخص خبرني. شوفة عينك الطريق فاضي، يادوب مرت قاطرة و مقطورة أو ثنتين أخذنا منهن مازوت و تركناهن يتيسّروا بالسلامة، يمكن اليوم ما عاد يمر حدا. بعدين خيو حضرتك كنت كلما تمر تناولنا باكيت دخان أو سندويشه هلّق حتى هيك ما عادت توفّي معي اضطرّيت تاجر بالمازوت يعني: بيسّر و بتيسّر.على الأقل بجيب ثمن دخاني و مصروف اولادي …الله وكيلك بعدني منقوع بهالصحرا من سنه و أكثر…ولك اولادي ما عاد يسمعوا كلمة إمهن بغيابي، و صاروا ركاك بالمدرسة….شو بدي إحكيلك لإحكي….
(والله معو حق!) ناولته ثمن الغالون، وتنعنشتُ حين دلقته في خزان سيارتي.
على الحاجز التالي كان مزاجي يغرّد كحسون دفيان. بادرتُ العسكري الذي انتصب باستعداد للتفتيش: عندكن مازوت؟ هنا توقّف عن البحلقة في هويات الركاب، و دنا مني يهمس: هلّق ما في. بلكي و إنت راجع من الشام بكون صار عندي. إنت و حظك!
على الحاجز الثالث كان وجه العسكريّ يقطر سمّا. لم أسأله عن المازوت. بدأت أنبش من رأسي أية حيلة تلهيه عن التمعن في الهويات كمن يدقّق في تحفة أثرية ليتأكد من أنها(أصلية، و بتجيب سعر!). وصل بعينيه إلى ركاب المقعد الأخير: رجل و امرأتان محجّبتان: من أين أنتم؟ أجاب الرجل بصوت ضعيف: (من حمص). (من حمص؟!) صرخ كمن يكتشف مصيبة. انزلوا بسرعه و افتحوا شنتاتكن. و استدار نحوي يهمس:( يمكن يكونوا مطلوبين من الأمن)….(يا سيدي أنا مسجل هوياتهن بالكراج، و أغراضهم ما فيها شيء. أنا مفتشها بإيدي هاي…) يدي هذه التي انزلقت الآن إلى جيب بنطالي واستلّت منه 300 ليرة و أودعتها في يد العسكري اللئيم، الذي بعدها ـ و بقدرة قادر ـ نزل من السرفيس بهدوء لا يشبهه، و أشار لي: تيسّر…
على الحاجز الأخير عند قصر المؤتمرات طلب مني الشباب أن ألزم الحذر: ستلاقي على يمينك الإرهابيين، و على شمالك حماة الديار. جميعهم يطلقون النار في كل اتجاه. أنت و حظّك!… استحلفني الركاب أن أوصلهم إلى الكراج في باب مصلّى، و سيدفع كلٌّ منهم 50 ليرة إضافية.
لم يحذّرني شباب الحاجز من كآبة الخواء على طريق المطار؛ طريقي الأليف الذي ما عهدته إلاّ عامراً بفيض الزحمة على مساربه. لم يحذّروني من الجثث النائمة بقلق الغريب على حواف الطريق، و لا من الجثث السوداء الشوهاء في سياراتها المحروقة، ولم أستطع أن أخفّف من سرعتي لأخمّن: أهي من جنى قذائف هذا الصباح فقط؛ أم أنها تحتمي بقوافل الموتى القدامى المشلوحين هنا في هذا العراء منذ أيام، و تستجرّ إليها رفاقا جديدين يستبدلون معا طقوس سيرانات أهل الشام العريقة بسيرانات معاصرةٍ لا يتقنها إلاّ الموتى؟!
بين الجسرين الثالث والثاني قفز السرفيس عن الأرض قليلا، وحطّ تاركا رائحة حريقٍ على الأسفلت المنبعج. أذكر أنّ جلَبَةً فظيعة داهمت أذني، ميّزتُ منها مواء طالبة الجامعة الحلوة من مقعدها خلفي: دخيلك يا إمي…وصياح المرأة التي تشد تنورتها: دخيلكن ابني، وصراخ الرجل الحمصيّ من مقعده الأخير: يا الله ما إلنا غيرك…. وأذكر أنّه تراءى لي أنّ السرفيس قد تجمّد في مكانه؛ فيما عداد السرعة يشير إلى: 110 كم. يبدو أنّ قدمي ضغطت بعنف على دعّاسة الوقود لتأخذ السرفيس بأقصى سرعةٍ ممكنة بعيدا عن مهوى القذيفة التي ارتطمَت شظيّةٌ منها بمؤخرته. أعتقد أنّ دقيقةً بطول دهر مرّتْ قبل أن تهدأ رجفةُ يدي على الدركسيون، و قبل أن ينفكّ ضغطُ قدمي عن الدعّاسة المرعوبة من عنف ضغطي…
أذكر فيما أذكر أنني حينها لم أخف من الموت بقدر ما تحسّرتُ ـ فيما لو أخذني هذا الموت على عجل؛ أنني لن أبقى حيّاً لأجلس في صدر المضافة، وأحكي لرفاقي السائقين، و لأقاربي و جيراني أنني أنا: حسن الذي لم يكن لي من شهادات الدنيا نصيب سوى أهليّة التعليم الابتدائيّ التي لا تهشّ و لا تكشّ، و شهادة سواقة عموميّة غاليةٍ على قلبي أحبها بقدر ما أحب اسمي الجميل: حسن…حسن، أحبها لأنها منحتني فرصة الفندلة على طريق الشام خمس مرات في اليوم القصير ذهابا و إيابا، و أغوتني بمغامرةٍ مجنونةٍ كمغامرة اليوم ، طمعتُ أن أخوضها وأخرج منها بالسلامة و الغنيمة، و أضيف بعدها إلى اسمي بجدارةٍ لقب:” الشاطر حسن ـ زعيم السائقين”.
4/12/2012
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.