هيفاء

من النافذة الخلفية
لنجاة عبد الصمد

 

 

” وقعْتُ في الحمّام “.

لفظتها وأغضَتْ جفنها الحلو. ظلّت عيناها نبيلتين حتى وهي تكذب، حتى بعد أن انتهكت الزرقة المخضرّة عاج جفنها. لم تفلح فرشاة الزينة المغموسة بالبودرة والمفروشة ـ على عجل، على قلق ـ فوق وجهها في إخفاء الحدّ الفاصل بين نصوع العاج الأصيل وقتامة الزرقة الطارئة..

من شَعرها القمحيّ  تحت حجاب الحرير تطلّ خصلةٌ تتلصّص على الحيلة الخائبة.

“جسمي كله يؤلمني”. تابعَتْ تحكي وترجف.

من صورة في خيالها تنفلت بسمة، زهرةٌ بريّة في موسم قحط . فلول استثارة من فرح لم يُمِتْه في صدرها ذعرٌ مقيم. “أخشى على خصوبتي”. بخفوتٍ تنطق بالعبارة.

هل على النازحين أن يُخفوا أمارات العزّ القديم كسرٍّ شائن أو بغيض؟!

شعاعُ خاتم الزينة في بنصرها الأيسر إشاعةُ سرّ، أشبهُ بخيانة غير مؤذية. ومثله وهج خاتم الزواج في بنصرها الأيمن، وطلاوة كفّيها ودلال أصابعها وهي ترقّصها على صدى شكواها.

(أخشى على أنوثتي) كل ما فيها يقول. هيأتها أفصح من قولها

برقة الحجل تسير من كرسيها إلى سرير الفحص. إثر الخطى يتلامع الفيروز على حرير عباءتها كشقاوة الأطفال، كفتنتهم. لم يطفئ ضحكاتِه لا الدعكُ ولا الغسلُ و لا التمليس تحت الفراش الخشن، ولا عتمة الغرفة الرطبة في المدينة الغريبة. ينكمش صندلُها الصيفي المهزوم في نزال الثلج. يستحي من هرهرة الوحل من كعبه الأسود الحائل على البورسلان الأبيض اللامع . لم يكن في متاجر الرستن في الصيف أحذية شتوية، لم تكن الرستن تعرف أن هيفاء ستفارقها إلى الشتاء، وإلا لكانت أهدتها ـ على الأقلّ ـ جزمة شتوية.

تتمطّى على السرير. تغمض عينيها. تغيب.

  “ومَن وجّه هذه اللطمة الظالمة إلى خدك يا هيفاء”؟

دمعتها عنيدة. أخيراً تفور.

” ومن قال أنّ على الكنّة ألاّ تتقاتل مع حماتها وإن كانت كلتاهما في نزوح”؟

ضربتني حماتي.” زوجك مفقودٌ، وتخرجين في مشوار؟! نازحةٌ ولا تستحين؟! صلّي، تستريحي”

” ومن قال أن النزوح يسحق الشوق، يمعس الرغبة، يسبي بنات الوصال في الخيال؟ كان لي طفلان أبيضان كريش الحمام، وزوجُ محِبّ، وبيتٌ فسيح كميدان خيل، ومالٌ وجواهر. لله وحده البقاء. لم تغلب صلواتُ الليل فتنةَ الحياة في زلعومي، ولم ترهبني تهاويل الشريعة حين هوت بأحجارها على عراء روحي. طفلاي في السماء، وزوجي مفقود وقلبي مهروس، ونزوحي كلبٌ، وصبري خائن. قلت لها: مريضةٌ أنا. أروح إلى الطبيبة. ستسمعني وتفحصني، وسريعا أعود”.

وليست مريضةً، ولا تحتاج إلى طبيب.

“يربض الوقت كسلحفاة على ضلوعي. أردت أن أخرج. قلتُ آتي إليك، وفي الطريق أشمّ الهواء. أشتاق أن يراني الناس. أن أرى جمالي في اشتهائهم. أن أقرأ في وجوههم كيف يتسلّون. أن أعيد التدرُّب على التسلّي في الليل. ساعديني. أو اكتبي لي وصفة، دواء يخنق عشق الصبيّة للحياة. أليس في الطب دواء لكل مرض؟!”

 

04/2/2013

 

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.