السؤال الذي أتعرض له دائما ماذا تكتب بعد سرمدة؟
بالحقيقة أنا شبه متوقف تماما، فوعي الدم أعلى من وعي الكتابة، وأنا لا أؤمن بالدور التنويري المباشر للأدب، ولا أهتم كثيرا أن يتحول الأدب أو الفن لواعظ أخلاقي، لمعالجة علل المجتمع، فهذه مهمة مؤسسات آخرى.
وأيضا لا اعتقد أنه يمكن كتابة – شيء ذو قيمة إبداعية – عن الثورة السورية بالخصوص أو الثورات العربية، عامة إلا بعد مرور سنوات، فسلطة الحدث اليوم وحجم الفجيعة أعلى من مزاج الحبر بكثير.
على كل سأسرد هنا حادثة جعلتني منذ شهرين في حالة من الدهشة المؤلمة.
في رواية سرمدة، أسرد الحكاية التالية. عن ولد اسمه فياض تربى يتيم الأب والأم بعهدة جدته، يقرر مدير المدرسة أن يمنعه من الذهاب في رحلة المدرسة. يأتي صباحا ليجد باص الرحلة، قد تحرك فيركض وراءه من دون أن يستطيع اللحاق به لأن المدير أمر ولدين ضخمين بـ “تلبيطه” ومنعه من التعلق بسلم الباص. فياض نموذج للولد الفاشل الذي لا يلقى بحياته سوى الصد والألم والسخرية من الجميع.
يجلس فياض باكيا منكسرا محروق قصل القلب، فلا يجد أمامه سوى علم المدرسة، العلم الذي طالما حياه وضرب له تعظيم سلام، العلم الذي طالما عاقب المدير الأولاد لأنهم لم يحسنوا تحيته كما يجب.
يتسلق الصاري، ويبدأ بتمزيقه انتقاماً من المدير، والمدرسة، والذل والجميع.
يعود المدير، يعرف أن فياض ارتكب هذا العمل الشنيع، يطلب له الأمن فيأخذوه لبضعة أسابيع، ليخرج بعدها من السجن مكسوراً للأبد.
يغادر فياض البلدة ويختفي. بعد عشرين عاماً، كان الناس قد نسوه تماما، يتذكرونه فجأة. عاد من الحدود، برفقة ثلة من حرس الشرف. اجتمعت سرمدة وما حولها من القرى والبلدات المجاورة لتكريم البطل الذى عاد نتيجة صفقة التبادل للأسرى بين حزب الله وإسرائيل، عاد ملفوفا بالعلم السوري. العلم نفسه الذي سبق ومزقه.
هذه الحكاية حقيقة بجزئها الأول تماما، وقد حصلت بالفعل في الثمانينيات لولد اسمه إحسان عزام من قريتي، وحين خرج من السجن متورم القدمين ، غادر القرية للعمل في ليبيا، وما تبقى أكملته من مخيلتي.
حتى هنا الحكاية عادية ولكن ما حصل منذ شهرين، جعلني ارتجف.
أكتشفت فجأة أن إحسان عاد في التسعينيات إلى سوريا، وتطوع بالجيش إلى أن استشهد مؤخراً، وعاد إلى القرية ملفوفا بالعلم السوري ذي النجمتين.
عندما كتبت الرواية كنت أظنه في ليبيا، ولو كنت أعرف أنه في الجيش النظامي يقاتل لإخماد ثورة شعبية ضد الظلم والذل هل كنت سأغير قدره في الرواية؟
لا أعرف ولن أعرف أبداً.
إحسان عزام، ليتني كنت في تأبينك، لذكّرت المدير الذي تفاخر بك شهيداً بكل الذل الذي ألحقه بك، ليمنعك من الذهاب إلى رحلة مدرسية، وكيف انتقم منك بإرسالك إلى أقسى الأمكنة التي يمكن أن تحول حدثاً من إنسان قابل للإصلاح إلى مجرم حقيقي..
إحسان، نم قريرا ملفوفاً بالعلم نفسه الذي سبق ومزقته.
——- الصورة: nele -azevedo ©
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.