أبي قال لسامرين جدداً مشيراً إلى أبي خلدون النائم: «لا أثق بأحدٍ ثقتي بهذا الرجل». أحدهم علّق على الفور: «طبعاً.. كيف سيخونك وهو نائم طوال الوقت؟». لم نعرف لمَ يأتي أبو خلدون إلى السّهرة ما دام، منذ عشرين سنةٍ، يغرق في النوم فور وصوله، ليقوم، مع انفضاض القوم، ليكمل نومته في بيته.. أحياناً يصحو ليضحك كي يوهم الآخرين أنه يتابع ما يحكونه، فعلها مثلاً حين كان الدكتور خالد يتحدث بقهر: «عبرنا النهر ألف مرة، ليس مرتين فقط كما هو المستحيل لدى الفلسفة. عبرناه واكتشفنا أن الزمن ماء آسن».
الجميع رمقوا أبا خلدون نظرة توبيخ فتظاهر أنها ضحكة من المنام، وعاد يشخر بينما أكمل الدكتور حديثه: «هذه الأشياء حدثت هنا، كلّها حدثت هنا. ألم ننزح نحن الذين لجأنا في 48 إلى الجولان فوزعونا على مدن البلد لرغبة اسرائيل؟ ثم في 67 بينما نزح أهل الجولان نزحنا أيضاً إلى دمشق. كم نزوحاً في هذا؟ كل الأشياء التي حدثت تعود لتحدث الآن. في لجوئنا أسعفتنا وكالة الغوث بالطحين والسكر والسردين والخيام. في نزوح أهالي الجولان أسعفت الدولة نازحيها بأشياء مشابهة، وإن لم تكن بكرم الوكالة. الآن يحدث النزوح إلينا، وفي الغد يحدث منا، ويحدث معه أن الكل صاروا وكالة غوث لأننا كلنا صرنا فلسطينيين. يا جماعة اللعنة التي أصابتنا ستصيب العرب، ثم تصيب العالم. هذا العالم سيذوق طعم لعنة فلسطين». استيقظ أبو خلدون وعدّل جلسته. شلّنا حديث الدكتور خالد عن الكلام، صار الكلام له وحده فتابع: «قولوا لي متى لم يكن في هذه الأمة نازحون أو لاجئون؟ في 2003 لجأ العراقيون، وفي 2006 تبعهم اللبنانيون. آلاف مؤلفة من أهالي الجزيرة السورية أجلاهم الجفاف قبل سنوات. الفلسطينيون لا أعرف كم نزحوا وكم سينزحون، ما أعرفه أنّ هناك نزوحاً وعلينا أن نذهب. نذهب ولا نعود. يا جماعة لا أحد يعود. إذا ذهبتم لن تنتظركم البيوت، الحرب لن تترك البيوت مكانها، الحرب تجعل المكان مكاناً آخر، لذا كل عودة هي ارتكاسة.. أقسم لكم أنني أرى في مناماتي أننا في بلد مجنون. الكل بهاليل ينطون ويصرخون ويخلعون ثيابهم ويأكلون الفضلات. الكل مجانين.. الكل مجانين..».
انطفأ القنديل. أخي مراد القريب منه نفخ عليه. كان يريد إسكات مجزرة الكلام، لكنه لم يحسب أن العتمة التي تلت ذلك الكلام الإرعابي تحولت إلى هرج راح يأخذ صرخات متداخلة، وزعيق حيواني.
انطفأ القنديل.. انطفأنا.. واشتعل الجنون..
* مقطع من كتاب «قطعة ناقصة من سماء دمشق» (قيد الطباعة)
الصورة: Credit to Flickr user – Rabbee ALhaj Othman