لا أعرف من أين خرجت وكيف وصلت إلى شارع شبيه بشوارع دمشق. أحد أصدقائي القدامى قادم باتجاهي, أردت أن أساله متى خرج من سوريا؟ وكيف وصل إلى هنا؟ لكن حلقي جف كخشبة عندما باغتني هو بالسؤال: متى رجعت..؟!
نظرت حولي وأحشائي تتقطع، وجدت نفسي وإياه أمام مدرستنا القديمة والطلاب يخرجون منها ويهتفون بلغة لم أفهمها.. كأنهم فرقة عسكرية.
قال صديقي: هناك شبيحة.. تصرف بعفوية.. لا تهتم.. تعال….
مررنا أمام الشبيحة الذين كانوا يملؤون المكان وركبتيّ تقصف خوفاً. خُيّل إليّ أن أحدهم سمع صوت خوفي، نظر إليّ نظرة توحي بأنه كشفني…
أدرك صديقي ذلك و صاح: أركض….
ركضت، وكان صديقي يركض معي، ويسألني أسئلة عادية من قبيل: ماذا تعمل.. هل تزوجت..؟!
قلت له وأنفاسي تتقطع: أين نذهب..؟؟
قال ببرود دون أن يلهث حتى: هنالك “عرس” قريب لأحد الأصدقاء، لنذهب إليه …
وصلنا أحد البيوت، ظننت أني أعرفها، أختبأنا داخل سوره،و كنت أرى عيون الشبيحة فقط،عيون تسبح في الهواء وتبحث عني. كان الخوف يأكل قلبي، خوفٌ لاعهد لي به..
باغتني رجل عجوز يحمل شمعة: أنت الميكانيكي..؟ وتابع قبل أن أجيبه: السيارة في تلك الزاوية إذهب لإصلاحها.
عندما خرجت من أسفل السيارة وجدت فوقي مجموعة من الشبيحة من الجنسين، معظمهم من الفنانين والمثقفين الذين علقت صورهم بذاكرتي.. سقطت في هوة مظلمة، شعرت بأن عقلي إبتلعني..
بدأ العرس، ووجدت نفسي بجانب صديقي العريس. همست له بأن المكان ملئ بالشبيحة، لكنه ربت على فخذي ضاحكاً: لا تقلق.. معك سلاح..؟
تذكرت أن معي مسدساً كنت قد اشتريته لإبني، مسدس لعبة…
قلت: نعم ،لكن ليس معي طلقات. لم يسمعني، كنت احاول التنفس ولا أستطيع.. انها لحظات رعب لا توصف..
أشار العريس بيديه بلا مبالاة لأحد الشباب الذين يحملون ” المايك” ،و كلما أشار له كان الشاب يقول: العريس سيدمر الرئيس…
وكنت أقول في نفسي: هذا لا يحدث إنه حلم.. أنا لست هنا.. هذا حلم وسَيمّر.. أنا بعيد عن سوريا أصلاً ولا أشترك مع هؤلاء بمصيرهم، تخليت عن المصير المشترك منذ زمن بعيد.
كنت خائفاً ونادماً، لا أرى إلا عيوناً بأحجام وألوان مختلفة تحاصرني.
بدأ إطلاق النار وكان العريس البادئ ،بعد أن صرخ بدرامية واضحة: النسوان لجوا.. لا تخافوا عدونا تافه وسخيف..
أما أنا فكنت أزحف على التراب، والعيون تراقبني باستهزاء….
صرخت بلاصوت: أين قاعة المؤتمر التي كنت فيها؟!!. أردت أن أتأكد أنني لست في سوريا..
كنت نادماً على كل كلمة كتبتها أو قلتها، وكانت عيون الشبيحة تسمع ما أقول، وتقترب مني حتى ابتلعتي..
وجدت نفسي فجأة أبكي بلا صوت في شارع يشبه شوارع المالكي في دمشق. كان صوت العريس ما زال يتردد في رأسي: لا تقلق عدونا تافه، عدونا تافه
كنت وحيداً هناك أحاول العثور على طريقة للإستيقاظ، عندما مرت سيارة تشبه السيارات المتجولة .كانت تبيع السلاح، أشكال مختلفة من الذخيرة والبنادق، يصيح عليها السائق برتابة مملة..
أطلت سيدة بنصف جسمها من احدى النوافذ، نظرت إليّ فوراً واستنجدت: وقفو الله يرضى عليك وقفو…. اشرتُ له دون أن أعيّ شيئاً فتوقف، نظرت بتمعن لوجه السيدة الذي يشبه أحد وجوه المعارضة النسائية..
أرسلتْ السيدة طفلها إلى السيارة، رأيتها تشير للبائع بيديها وبأصابعها، حمل الولد الكثير من الأسلحة بفرح وعاد لأمه. تابع البائع ندائه وقاد سيارته بسرعة هائلة باتجاهي.. إبتلعني عقلي مرة أخرى..
الأن أنا في ممر مشفىً ميداني ومعي طبيب عرفته قديماً، يبكي بهلع وكنت أبكي معه، ومجموعة من الشباب ينادون بأسمائنا، صوت أمي في رأسي يقول لي: لماذا أنت خائف؟! صرخ الطبيب في وجهي: لماذا أحضرتني هنا؟ كنت أقنعه بأنه مجرد حلم من أحلامي. قال: أهذا هو “البزنس” الذي وعدتني به؟..
تباطأ كل شئ فجأة حتى أصبح كعرض فلم بطئ، كل شئ يتحرك بتثاقل ويراوح مكانه، ويكرر نفس العمل، كل الأصوات أصبحت مضحكة حتى صوت الطلقات التي تصيب الحائط الحجري الآسود خلفنا. شعرت بحكة في قدميّ، وبصعوبة إستطعت النظر إليهما لأجد كلبين ينهشان اللحم عن ربلتي ساقيّ بسرعة وبنهم شديد، كانت قدماي من العظم الملطخ بالدماء فقط…
غبت من جديد
وجدت نفسي أمام باب بيتي القديم أبحث عن المفتاح، لكن يدي علقت في جيبي، وكنت أشعر بأصابعي تحترق، وشئ ما يسحب يدي عميقاً. كانت الأبواب تتزايد أمامي وكلها أبواب أعرفها، أبواب بيوت سكنتها مرة. صوت الطلقات يملأ المكان و وقع أقدام على السلم، عرفت أنهم رجال الأمن جاؤوا لإعتقالي، مع اقتراب صوت خطواتهم ويقيني بأني واقع حتماً في قبضتهم ،دارت الدنيا و دار رأسي خوفاً، وفتحت عيني بقوة..
استيقظت هلعاً وبحلق جاف كصحراء..
يوم جديد ونوع جديد من الخوف لتجريبه، نحن نجرب أنواعاً من الخوف لا عهد للبشر بها، الخوف كلب مسعور يحمله السوريون في حقائبهم آينما ذهبوا، يتربع وسط منازلهم..
صباح ذلك اليوم في فندق المؤتمر، وعند الإفطار كنت أحدث الأصدقاء عن حلمي بالذهاب لسوريا لمشاركة الشباب نضالهم على الأرض، لولا كثرة المشاغل.
أقسم أنني كنت مقتنعاً جداً بكلامي..!!
الصورة: Odilon Redon