أمينة

ريما سويدان

 

” لا أشعر بالحزن عليها، وإنما على جيلٍ بأكمله”

منذ ثلاثة أيام لم نرَ الشمس، والسماء ترعد وتمطر بشكل متواصل وكثيف، حادثة تاريخية يمكن أن تسجل في كتاب غينيس لمدينة كدبي. ما زلت أذكر ذلك اليوم: كنت ابكي وانا أقود سيارة “الباجيرو” في طرقات “المرابع العربية” الدائرية على غير هدىً، دموعي تسابق حبال المطر المنزلقة على شباك السيارة الأمامي.

– قُصيّ :كيف هيك صار أنا ما عم صدق؟
– لك يا أختي شو بدي خبرك، إنتي بتعرفي أمينة قديش هي عنيدة.

– كيف يعني؟
– قررت تطلع من المستشفى رغم إنو كل الدكاترة نصحوها بالعكس لإنو في خطر على صحتها، وإخواتها ما قدروا يعملوا شي غير إنون ينفذوا رغبتها. حملوها هي وقنينة الأوكسجين وحطوها بالسيارة وعلى مصياف، بدها تكون ببيت أهلها. مافي تلات أيام كانت متوفية.

– في شي مو صحيح، في شي غلط.

لم أستطع أن أغفر لكِ، لم نأت على هذه الحياة بإرادتنا فكيف يكون لنا مغادرتها بكامل ارادتنا، مغادرة الحياة ليس خياراً. أن تعيش، وتبني علاقات، وتتخذ أصدقاء، ثم تغادرهم هكذا لأنك فقط تعبت أو مللت، قمة في الأنانية. هذه الدوائر التي كنت أقود فيها، لم أستطع تقبل الفكرة. عدت وقرأت آخر رسالة أرسلتْها لي على الموبايل “آسفة ريما لها الانقطاع أنا ما نسيتك. إلي بالمستشفى من أسبوع وغير قادرة هلأ على الحكي لرد على مكالمتك، مشتائتلك”. رسالة عادية لا تحمل مدلولات، أمسكت الموبايل وطلبت رقمها .. رنة، إثنتان، والثالثة: فتح الخط .. ألو .. ألو .. الخط مفتوح ولاجواب. يا إلهي هل هو خط العالم الآخر وهم غير قادرين على سماعي!! لم يُغلق الخط وأنا مازلت محدقة بالموبايل وأقول ألو ألو.
علمت فيما بعد أن هاتفها كان مع أحد إخوتها الشباب.

عندما عدت إلى الشام وقضيت تلك الأشهر إعتقدت أن الحياة تعطيني مزيداً من الوقت لأقضيه مع أبو قصي، لم أدرك حينها أنه كان وقتنا نحن الاثنتين مع الحياة.

عرفتُ أمينة في مراهقتي، كانت صديقة العائلة المقربة، أنثى ذات ملامح لطيفة وهادئة، شخصية قوية حازمة، مدخنة “حمراء” من الدرجة الأولى، لم أعرف قط عمرها الحقيقي حيث كانت لا تحب التحدث عنه وأنا لم يكن لدي الفضول لأعرف، كان يكفيني أنها من جيل الخمسينات، خريجة إقتصاد ولكن ليس عن صدفة وإنما عن سابق اصرار. لم تكن تنتمي لأي حزب سياسي مع العلم أنه تم تصنيفها مع اليساريين وربما الشيوعيين، … فإمرأة مستقلة غير متزوجة تجازوت الثلاثين، ليست من المدينة ومحاطة بكثير من الأصدقاء ،الذكور منهم أكثر من الإناث، على الأغلب إذاً هي يسارية … بالنسبة لي “أمينة أنثى من زمن آخر وكفى”. كنا أصدقاء على المدى البعيد.

– ريما، لاتعودي أبداً إلى هذه البلاد. في زمن مضى كان لعيوني ذاك البريق الحالم الصارخ بالحياة كعيونك، فقدته.

– لا أصدق أنك مازلتِ تعملين في ذلك المكان البائس المدعو وزارة التخطيط برغم كل الفرص التي عُرضت عليكِ للسفر!
– البلد قضيتي ريما، ولن أغادرها.

– أستطيع تفهم وجهة نظرك إذا كان هناك بصيص أمل في آخر النفق، هل ترينه؟
– لا، لا أراه.

– ما زلت هناك فرصة بالذهاب إلى تونس، لا تفوتيها.
– ممكن، سأفكر بها.

منذ بداية الثورة وأنا افكر بكِ، كان يجب أن تكوني هنا .. إنها الثورة يا أمينة، الثورة التي لم نتحدث عنها أبداً بسبب اليأس وفقدان الأمل الذي كنا نعيشه. جيلين مختلفين، ثورات ذاتية متشابهة، خيبات متقاطعة ويأس واحد. كيف لك أن ترحلي قبل أن تسمعي صوت الناس في الشارع تُسقط انظمة وتلعن ارواح؟ … كثير من أصدقائك الذين لاأعرفهم هناك يهتفون للحرية ويبصقون على زمن البعث ويعتقلون للمرة الثانية والثالثة ليخرجوا الى المظاهرة، ويلعنوا روح المقبور مرة أخرى. كيف استطعتِ المغادرة !!

– لمَ تفتحي الباب بسرعة
– كنت أفكر هل انا قادرة على استقبالك.

– مرهقة أنت، الأرق كالعادة؟
– لاء إنه البكاء.

– بكاء!!!
– بالأمس حضرت فيلم لطيف، عميق الفكرة لكنه لطيف كمن يمرر أصابعه على أطراف شعرك.

– لطيف، فلماذا إذاً البكاء؟
– بكيت كثيراً يا ريما، بكيت إنسانيتنا.

أدركت ماحدث عندما سمعت تلك الجملة “لا أحزن عليها، ولكن على جيلٍ بأكمله”،لقد علقتِ بالزمن وحيث لا عودة فلا استمرار. لم يكن من الممكن أن أدركها بمفردي فالزمن بالنسبة لي هو تلك الحركة المستمرة إلى المستقبل، والماضي هو ذلك البئر الذي أعود إليه كلما تاقت روحي الى التحليق، لذلك لم يكن ممكناً أن أفهم كيف للبشر أن يعلَقوا بمرحلة زمنية معينة ويرفضون المتابعة بالحياة. الآن وبعد مضي عامين على الثورة بدأت ألحظ هذه الظاهرة على جزء لا بأس به من الأصدقاء، ليس الكل أقدم على مغادرة الحياة وإنما الاسوأ، فهم مستمرون بها ولكن ليس معها، هم ايضاً قد توقف لديهم الزمن عند مرحلة ما. البعض منهم لما قبل الثورة بسنين، والبعض إلى الأشهر الأولى للثورة، والبعض لم يعد يدرك في أي مرحلة تحديداً توقف حيث لم يعد يريد الاستمرار.

هل هذا حقاً ما حدث لأغلبية أبناء جيلك؟
مازلت أعتقد أنه كان يجب أن تكوني معنا.

اليوم فقط وبعد ستة أعوام، أُحَرِّركِ …. الوداع يا صديقتي.

 

 

الصورة: d i a n e p o w e r s

عن ريما سويدان

ريما سويدان
صبية سورية مغادرة الوطن من أكثر من عشر سنوات