كتبت آية الأتاسي في إحدى المرات، خاطرةً تصف فيها خوالجها عن كيف يعودة الأب بعد غياب اثنين وعشرين عاماً حقيبة
تحوي بعضاً من أشياءه الخاصة وذاكرة برائحة مشبعة بغبار السجن.
كانت مؤثرة جداً، أبكتني.. الصدمة أنني لم أستطع التوقف عن البكاء، وتحول بكائيإلى نَحيب.. هنا استوقفتني هذه الحالة: “ما الذي يحدث؟ أبو قصي مازال حياً، يجلسهناك على الأريكة المعتادة يقرأ، ويشرب المتة” على ماذا أبكي بالتحديد”!!..
أدركت سؤالي: ما هو الأصعب بالنسبة لعائلة السجين السياسي، موته واستكمال الحياة من بعده، نعتاش على ذاكرة ستتلاعب بها عواطفنا وفجواتنا النفسية، لتخلق لنا عالماً افتراضياً منسوجاً حول هذا الأب المجهول، فيصبح ملاذاّ نهرب إليه كلما ضاق بنا الحنين؟ أم خروجه حياً يرزق ومواجهة مرارة الصدمة بضياع ذاك الملاذ، وبدء رحلة المحاولة لاستشفاف
ملامح هذا الأب؟..
– أحمد انتبه وأنت تتحرك فريما دائماً وراءك، حيث أنك في كل مرة تقوم بإطباق الباب على يدها وهي محاولة للحاق بك.
– ولماذا مدرسة دوحة التربية؟ على طريقي إلى اتحاد العمال وبذلك أستطيع قضاء أكثر ما يمكن من الوقت معها.
– أحمد، ما قصة المعهد العربي للموسيقى؟يبدو أنها موهوبة!! سأتكفل بإيصالها وإعادتها.
– أليس من الخطر أن تأخذ ريما معك إلى بيروت في ظل هذه الظروف من الحرب، وخصوصاً أنك بمهمة حزبية؟ لا أظن أن شيئاً سيحدث لنا.
عند عودة السجين السياسي إلى الحياة لا يخطر في بال احد مقدار حاجته إلى طبيب نفسي له ولاسرته. يا لها من رفاهية في التفكير. كيف يمكن لشخص سجن اثنتي عشر سنة ونصف من أن يتوازن لبدء ممارسة دور الأبوة من غير مساعدة طبية؟ كنت أريد أبي، وبكل إصرار وعناد كنت أطالب به. لم يكن مهماً أنني كنت قد تجاوزت العشرين من عمري، فأنا لم أغادر طفولتي المسروقة قيد خطوة، وأبو قصي لم يغادر شوقه لطفلته قيد ذكرى..
سنتان كاملتان من المشاحنات المستمرة التي وصلت إلى حد المطالبة بمغادرة المنزل،لم يكن هناك من طريقة للوصول إلى صيغة مشتركة لمتابعة الحياة.
“اجلس على الكرسي وظهري لابو قصي لبدء طباعة مذكرات السجن خاصته بعد أن انسحب من اتفق معه”.
الليلة الماضية رحلت عبر حلم طويل انتهى إلى كابوس.
رأيت الزوجة والبيت والأولاد، ولكن البيوت ليست هي البيوت، خالجني إحساس أنني حر، وماض إلى أسرتي، التقيت في الطريق بالابنة ريما أو كما خيل لي، وأبدت رغبتها بالنوم، نامت في غرفة ودثرتها، وذهبت لا أدري إلى أين، وكأنني التقيت بالزوجة، وبأناس آخرين كثر في مكان غير محدد، في زمان غير معروف، لم أكن أدرك خطوط النهار من الليل. كنت قلقاً، وأشعر بعدم الاستقرار. الوجوه التي أراها تبتعد وتنأى عن مجال الرؤية، وبعد لحظات تصبح منسية.
ازداد قلقي وأنا أبحث عن ابنتي. أين هي؟ ورحت أسأل نفسي وزاد همي. كنت أمر في ممرات، وأصل إلى دساكر، وساحة تؤدي إلى أزقة، وزنقات، ودخلات. وكنت أصل ولا أصل، إذ أنا بالعراء، في المكان الذي ناحت به الابنة أحكمت تغطيتها فوق الرمال في مدى سهل لانهائي.. رأيت مكانها لكنها كانت غير موجودة، كأن وحشاً قد أخذها.. رحت أدور حول المكان وأكاد أبكي، وأنادي بأسى ولوعة باسمها، صحت بأعلى صوت.. وهنا استيقظت، وغيّرت طريقة نومي”..
غَصّ أبو قصي وهو يكمل هذا اليوم، وبدء صوته بالاختناق. كأنه يمسح دموعه؟! لم أقوى على الالتفات وتجمدت أصابعي على لوحة المفاتيح.
– لنكمل غداً..
– أجل، سوف نكمل غداً.
أسمع وقع خطواته تغادر الغرفة نازلةً الدرج، مازلت بحالة جمود ودموعي تغطي وجهي. في الزيارات اعتدت أن أرى أبو قصي قوياً، ضاحكاً ومتماسكاً، عالماً بخفايا الأبوة، قارئاً لما بين سطور أولاده.
غضبي لم يجعلني أدرك كم هو متعب ومنهك وبحاجة لأن يُترك لذاته لكي يلملمها. تنازلت عن مطالبي بالأبونة وقررت مغادرة طفولتي ليبدأ أبوقصي بالتحول إلى حالة. كانت بداية مراقبتي له كعائد من عالم الأشباح وبداية تعرفي عليه كإنسان، وبشكل تلقائي تشكلت تلك الصيغة الضائعة للتعايش وحلّ أبو قصي بدل”بابا”.
مسافة الوقت المستقطع بين كفيهما هي ما يربط أبو قصي وريما، تنظر إليه بحنوٍ رافعة رأسها، وهو مستمر بالحياة كله يقين أنها متمثلة بكل ثانية من ذاك الزمن.
لم يعد لجواب السؤال أي أهمية..
“للحياة إيقاعها الخاص الذي علينا مراقصته، لا للتوقعات ولكن لانتظار المفاجآت”..