الوشم

نجاة عبد الصمد
خاص بدحنون

 

كلّما مرّ الجرّاح بساحة المدينة، ورأى أسراب الوشوم تختال كالغربان قفزت إلى ذاكرته صور شقيقاتها القديمة التي رسم بيديه مصيرها البائس.

يذكر أنه قليلاً ما استساغ رسومها العجفاء، ونادراً ما لفتَهُ فيها أيُّ إبداع: (أفعى هزيلةٌ تلتفّ على ذراعٍ سمينة)، (جمجمةٌ تحتها عظمتان متصالبتان)، (قلبان مثقوبان بسهم الهوى)، (“باطل” المسروقة من (أبو عنتر) دون إذنٍ بحقوق الاقتباس)، (رسمُ حوريّةٍ بليدةٍ لن تُغوي شابّاً محروماً، ولن تُلهم شاعراً مأزوماً، ولن تقنع واحداً من عامّة الخلق أنها أسطورة البحر)، (اسم الموشوم يخاصر الحرف الأول من اسم حبيبةٍ لم تعد حبيبة، يقول عادةً أنها هي التي خانت).

طاله الندم بعد اقتلاع أيّ وشمٍ، آلمه أن تكنس يداه هذا الشاهد الحيّ على جزءٍ من تاريخ حامله. لكنّ ندمه العابر لم يمنعه من إخفاء العشرات منه بعد أن يصدح الإعلان في الراديو والتلفزيون والجرائد الرسمية:

(تعلن وزارة الداخلية عن حاجتها لعدد من الشبان الراغبين بالتطوّع في قوى الأمن الداخليّ من حملة الشهادتين الابتدائية أو الإعدادية، ممّن أتّموا الثامنة عشرة……)

يتقدم (الراغبون). يفاجئهم شرطٌ أليمٌ من بين الشروط الفرعية للقبول: (الخلوّ من العلامات الفارقة (غير الخلقيّة) كالوشم وغيره…)

من محاسن الصدف أنّ يكون معظم المتقدّمين موشومين. يروحون إلى عيادة الجرّاح ضارعين لشطب العلامة الفارقة قبل انتهاء مهلة الإعلان.

يتأمل هذه الوشوم الوديعةٌ كيف تتماهى مع يد حاملها أو ظهره أو صدره، ويحدس أنها لن تسكت على ضيم؛ ستقاوم بعنادٍ حين يُدميها المشرط، لن تستسلم للزوال قبل أن تودع مكانها ندبةً أبديّةً تنتقم من عافية الذراع الذي سيبيع تاريخه طمعاً في وظيفة الشرطة.

وعلى الجرّاح بدوره ألاّ يستسلم. أن يسعى بعقله وصبره ومشرطه لإخفاء مكان الوشم، لتصغيرَ الندبة الباقية وصقلَها وهندستها. كلّ وشمٍ يقتلعه تمرينٌ ثمينٌ في هذه الجراحة التجميلية العسيرة.

لم يكن يجني من جراحته هذه مالاً لأنّ مرضى الشرطة فقراء. يروحون إليها كي يقبروا الفقر، وكي يهربوا من خدمة العلم. معظمهم استدان حتى ثمن الطوابع اللازمة لطلب المسابقة. كانوا فقط يشكرونه بعد أن يرمي جلودهم المسلوخة في حاوية الزبالة المخصصة للنفايات الطبيّة، وينطقون بأسفٍ بليغ: (عليك الصبر، وعلينا الوفاء). ينوون في المستقبل أن يردّوا للطبيب خدمته، في زمنٍ أقصاه سنتان، وربما: ثلاث سنوات، حين سيتمكّنون في وظيفتهم، وينتقلون من الريف الكئيب إلى قلب المدينة. حينها لن يردّوا دَينهم مالاً؛ بل خدمات: السماح له مثلاً بتجاوز الإشارة الحمراء، أو الوقوف في الأماكن الممنوعة، أو شطب مخالفةٍ ظالمةٍ دوّنها شرطيٌّ آخر. معظمهم ساروا على خطى أسلافهم فور التقدّم إلى المسابقة وقبل فوزهم بالقبول، فشرطيّ الغد لا يدفع لقاء خدمات اليوم.

كان ميزانُ الجرّاح دوما خاسراً معهم، لأنّه لا يميل بطبعه إلى مخالفات السير. لكنّه، ومنذ بداية العام الماضي فقد غواية طقسه السنويّ، خسر الخامةَ الملهمةَ لتطوير مهاراته.

أصحاب الوشوم راحوا يتطوّعون هذا العام في اللجان الشعبيّة.

من محاسن الصدف أيضاً أنّ قيادة اللجان الشعبية تعشق أصحاب الوشوم، تنتقيهم دون سواهم، تعيد للوشم اعتباره بعد طول غبن…

 

19/4/2013

 

الصورة: مقطع من رسم أبو عنتر – لمى خياط  lama-khayyat ©

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.