هنالك في سوريا رعب.. رعبٌ حقيقيّ من الثّورة، تروّج له نخبةٌ و شرائح عفا عليها الزمن…انتهى زمنها وصلاحيتها.. انقرضت…اندثرت..اضمحلت تلاشت…تحنّطت وتصخّرت وتملّحت ….
هنالك بلاد تولد من جديد….تتحرّر…تَنشأ.. تُبدع …تبتكر و تخترع و تخلق ثقافتها الجديدة الخاصّة…
ثقافةٌ غريبة عن هذه النخب “المستنخبة ” تعجز عن فهمها, ولا تستطيع قراءتها وتحليلها… لذلك يرتعبون ويرتجفون من تداعياتها عليهم وعلى تاريخهم وانتاجهم ومكانتهم ومكاسبهم …. ولذلك تراهم الأوائل في المحاربة والاستخفاف بكلّ جديد ، بكل مبدعٍ جديد ، بكلّ كاتب و رسّام ,بكلّ مغنٍ أو مُنشد ، بكلّ رافضٍ لهم و متمرّد على عقولهم ….
هنالك ثقافة جديدة تستجمع نفسها …تتكثّف سحبها لتعلن العاصفة على ثقافة التزوير والإذعان …
ثقافة لا تأبه للكتب والمؤلّفات الضّخمة المملّة, والفنّ السّمج, والمسرح ثقيل الظّل, والتّمثيل الفارغ, والشّعر الدائريّ الدّبق…. لا تأبه لوجوه المشاهير ومنصّاتهم واجتماعاتهم وقصات شعرهم ولحاهم وسيجارهم وجوائزهم ……لا تأبه للّغة الجميلة المُنمّقة, والرّسومات المليئة بالألوان المرهقة للعين والرّوح….لا تأبه للصّحف والمقالات ومواقع التّحليل والتّأريخ والأرشفة…..لا تأبه لعدد المعجبين والمتابعين ،و لا تأبه للعمق والتعمّق والفهم التاريخي واللاتاريخي للزمن وللحدث…
في ثقافة جديدة…..قادمة
من الحواري البعيدة والشّوارع التي بلا اسم….من المناطق الصّناعية والمزابل والأحراش والمزارع….
من الشّوارع الضّيقة المتّسخة ..
من بسطات الخضار ومحلّات بيع السّجائر, والمياه الملوثة,والخبز السّميك القاسي…. من المدارس المهمّشة والطّلاب “الفلتانين” بائعي المستقبل بقنينة عرق أو لعبة قمار بالدّين…. من المساجد والمصاحف الفقيرة القديمة…
من التمرّد والفرحة بامتلاك سلاح وحمله في العلن ، واطلاق الرّصاص بلا خوف وبلا حساب… من الاستهزاء بالحكومة وأزلامها وجنودها ودباباتها …
من الحنفيّات الصّدئة التي تمنحك الهواء النتن بلا ماء…
من طبخة لعشرة أشخاصٍ وصحنٍ واحد, وربطة خبز مع رأس بصل…
من المظاهرات التي تجمع الفقراء للرّقص والتّضامن وتبادل الأغاني والموسيقى الشعبية… من شعبٍ يموت ليعبّر عن فرحته بالحياة والحرية…
من كاسة شاي عالفحم ورجال يحملون البنادق للدفاع عن الوطن والعرض والشّرف…. من المقابر التي تفتح فمها للأبد…..
من الأساطير الشّعبية التي تؤمن بالمعجزات وتقدّس الشّهداء, والمناطق التي ترى في القصف ميزة وتتفاخر بآثار الدمار…..
من موبايل يحمل أغاني حبّ هابطة, وأغاني ثورة,ومقاطع(سكس) ورسائل غرام , وصورة للأخ الشّهيد , وصورة لصاحبه مع بندقية وأخرى لحبيبته…. من الفئات التي تمْقُتُ ما لا تفهمه…
من مراهق يحتفظ بصور إليسا لغاية في نفسه وليس حبّاً بأغانيها….
من شاب يحتفظ بكتب لا يقرأها…
من الجنازات والواجب والعيب والحرام وال( ما بيصير)….
من الفرحة بالتّصوير والظّهور على الشاشة, و اللّهفة البريئة….
من المشاوير في الحدائق العامة والبريّة والسّهل…..
من مواسم التّخزين والمونة والقطاف والحصاد…..
من الطّرطيرات والبيك أب وعمال اليومية والاسبوعية….
من رواتب الموظفين التي تنتهي قبل قدوم موعدها….
من الأميّة والجهل والتّخلف والكبت والعنف المنزلي وسجون الأحداث والخوف من الغد… ومن الجيوب الفارغة المفلسة التي تخبّئ الرّضا …….ومن ومن ومن…
ثقافة قادمة من قلوب الفقراء المتعبة ……. ستحكمنا حتماً عما قريب..