الصفحة الرئيسية / نصوص / نثريات / العشاء الأخير

العشاء الأخير

المجدلية

 

لن اجمع الأشلاء واصنع منها بندقية، أحاول فقط أن اصنع من دمائهم حبراً اكتب به أسطورة شعب لن يتكرر. فكل صباح استنشق عطر الشهداء الذين ما زالوا يصعدون إلى السماء بأصوات تعلو عن أصواتهم في المظاهرات السلمية التي خطوها بكلمة حرية وغصن زيتون على مرآة من عالم وشم جبينه بوصمة عار تندى له ناصية البشرية.

ربما تأخرت كثيراً لأكتب ما سأكتبه، ولكن ذكرى شهداء ملطخون بالدماء تعن بذاكرة أخشى عليها من التهشم في ظل هذا الموت اليومي الذي نعيشه ورغبة للمحافظة على إنسانية مهددة بالانقراض. اكتبهم لأعيدهم وأعيد معهم هتافات توقظ دهراً أمضيته بين البساتين الربيعية وما زلت رغم كل شيء. لم يرحلوا ولن أودعهم، فهم باقون في دم أولادنا وعروقنا وقلوبنا وفي شرايين أشجارنا وغذاء ثمارنا، في كل أنشودةٍ ترنُ في حناجر الأحرار. اكتبهم لأن روحي المتعبة تاقتْ لأغاني الأقحوان وأغاني الفجر، ولزرع على ذلك الغدير، ينبتُ كما ينبت خيطُ النورٍ بيْن أحضان الشفق..

 

الثلاثي: خالد اللحام – محمد نور زهرة – فهد الزبيدي، ربما تقاسمنا الهواء سوية ..ربما مررت يوماً من جانبهم، ولكني لم اعلم بوجودهم بالقرب. عرفوا كيف يحلون لغز الأرض وطلاسم الماء. كنت أتعلم الحياة، بينما كانوا يتعلمون لغة التراب والنهر والسنبلة. كنا نبحث عن الأسئلة، بينما كانوا يعيشون الأجوبة. كانوا وسيكونون جزء حقيقي من هذا الوطن، بينما يبحث كان البعض عن الوطن الضائع في الداخل والخارج. باستشهادهم أعادوا كتابة الوطن من جديد ..ظلموا فأنصفتهم الأرض.

(لعيونك) كلمة طالما رددها خالد لخدمة الآخرين. ولد في دمشق – كفرسوسة سنة  1993. اعتقل وعانى مرارة السجن والتعذيب عندما حاول مرة أن يدافع عن رجل كهل اعتدى عليه رجال الأمن بالضرب أمام جامع، فما كان من خالد إلا أن هب لمساعدته، فترك رجال الأمن الكهل وانهالوا ضرباً على خالد الذي نُقل إلى المشفى ومن ثم إلى فرع أمن الدولة، ليخرج بعد 4 أيام بتاريخ   4 / 4 / 2011 في حالة نفسية سيئة للغاية لم تثنيه عن ممارسة نشاطه الثوري والحصول على الثانوية العامة حينما اختاره القدر ليكون وردة ليستشهد في نفس تاريخ اعتقاله في 4 / 4 / 2012!

كبطلٍ خرج من رواية مشهورة بأسم (الرجل البخاخ). يقوم محمد كل ليلةٍ ويتحرر من أغلاله ليقلق راحة الظلم، فيقضي ليله في بخ شوارع دمشق برسومات الغرافيتي وبحروفه الصادقة دونما كللٍ أو مللٍ. يلون الحياة بألوان الحرية المتشحة بالتفاؤل والأمل، فيسطر بريشته حقوق المواطن المستضعف المغلوب على أمره. نقل محمد أيضاً الكثير من الإمدادات الطبية إلى المصابين، وقام بتنظيم الاحتجاجات. اعتقل في فرع الأمن العسكري ٢١٥- لمدة ٥٦ يوماً، تعرض خلالها للضرب والتعذيب. تعرض فيما بعد لعملية اغتيالٍ نجا منها، وذهب ضحيتها رفيقا دربه الشهيدين خالد اللحام وفهد زبيدي. أعلن زهرة وأصدقاؤه عن إطلاق حملة “أسبوع غرافيتي الحرية” في صفحة على الفيسبوك، تعبر عن نشاطاتهم الممزوج بالعصيان المدني والتعبير السلمي. تكررت المحاولة لقتله في يوم 29/4/2012، إذ كان نور يتنقل من حي إلى آخر، حاملاً معه بخاخ الغرافيتي، متنقلاً من سيارة إلى أخرى. وعند إحدى نقاط التفتيش أسرع بسيارته خوفاً من أن يتم كشفه، فأطلقت قوات الأمن النار عليه وأصابوه في ساقه. يقول أصدقاؤه وزملاؤه من الناشطين إنه نزف حتى الموت مخلفاً وراءه 23 ربيعاً. قامت قوات النظام بقمع تشييعه وكما تبين أن العديد من أشرطة الفيديو التي بثها هواة إلى خارج سوريا، توقفت عند لقطات تظهر ما تبقى من جنازة نور زهرة، ليظهر في اليوم التالي شريط جديد لجنازة أخرى وشهيد جديد، صبي آخر تغطيه الزهور، فيديو آخر وشهيد جديد.

كان فهد ناشطاً ميدانياً وأحد المنظمين الأساسيين في المظاهرات من مواليد 1990. شارك بكل أطياف الأعمال الثورية في بلدته. فقد كان يقوم بإسعاف الجرحى وانتشال جثث الشهداء تحت خطر القنص والاعتقال. لم يكن يتذمر من ضيقة حاله ولطالما طلبت منه أمه أن يكمل نصف دينه ويتزوج، ولكنه كان يرفض قائلا أريد المضي في درب الثورة. استشهد ليورث الشهادة إلى أخيه مجد زبيدي.

في يوم نيساني، حث كل من خالد ومحمد صديقهم فهد على إنهاء مكالمته مع أحد أقاربه في الخارج – الذي كان يطمئن عليه- ليذهبوا لتناول وجبة عشاء مؤلفة من الشاورما في منطقة قريبة من منطقتهم، وما إن وصلوا هناك حتى صوب عنصرين من المخابرات، يستقلان تكسي عمومي تقف إلى جانب سيارة خالد، الكلاشنكوف نحوه هو وصديقه فهد. بينما نجا محمد حينها لينال الشهادة بعدهما بـسبعة وعشرين يوماً.

أبرز ما اتهموا به تأمين الإمدادات الطبية إلى المصابين وتنظيم الاحتجاجات وإسعاف جرحى المظاهرات من أبرزهم صديقهم الشهيد عزات دحلة. ليكتبهم فيما بعد صديقهم الشهيد حسام كريم برسالة.

الفاتحة إلى أرواح شهدائنا الأبرار

 

 

……………قتلوني بإخوتي الشهداء………..

وأنا أقوم بكتابة هذا النص، اكتشفت أنني اكتب شهيد، ليدلني على شهيد آخر وسلسلة تصل لأسماء أخرى من الشهداء. وكيف لا ووطني أضحى عبارة عن صورة كبيرة لفصل ربيع، ألوانها الدماء وإطارها الشهداء!

 

صورة الغلاف: عن صفحة اسبوع غرافيتي الحريـّة سوريا |FREEDOM GRAFFiTi WEEK Syria

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.