سؤالٌ أول إلى أم عبد الله: هل كانت تلزمنا الحرب كي نعرف بعضنا بعضاً؟!
بعد أكثر من شهرٍ من نزوحها إلى السويداء صارت أم عبد الله من درعا تقول، وتعيد: سامحونا…
“أرعبنا القصف بقدر ما أرعبنا وطءُ دياركم. يروون عنكم أنكم وحوشٌ ومارقون وكفرة، وفاسقون… حسدنا من استطاع الفرار من درعا إلى مخيم الزعتري في الأردن، وشتمنا قدَرنا الكسيح الذي اضطرنا إلى اللجوء إليكم يا دروز…”
لياليّ الأولى قضيتها أنام خلف الباب أحرس أطفالي في الغرفة التي أعطونا إياها. تحت مخدتي سكينٌ جلبته من مطبخي للطوارئ لم أحمل سواه، وسوى مدخراتي، وتمرٍ كثيرٍ ولبنٍ جميدٍ… زوجي يتصل من السعودية كل يومٍ يقول لي عودي بهم، موتوا هناك ولا تموتوا بيد الكفار أصحاب الذيول…
“ولوين أرجع؟! هناك بيتي المحروق والدبابات اللاطية مثل أفيال أبرهة الحبشي..”
لم أطعم أطفالي من زادكم الحرام، أحتال وأرميه ليلاً في برميل الزبالة البعيد. كل يوم أقسم تمراتي القليلة على أولادي، وأُذوّب اللبن الجميد بالماء ليشربوه، وآكل فقط ما يبقيني حيّة.
مضيفتي الذكية انتبهت إلى ذبول أولادي، إلى ثياب الأطفال التي أعطتني إياها ما تزال مطويّةً كما تركتْها بعد وصولنا في زاوية الغرفة. قد تكون حدست برعبي. أحضرت إلى غرفتنا طبق الغداء، وجلست، أكلت منه عدة لقمات قبل أن تقف وتستدير صوب الباب وهي تقول: “بالهنا يا إخوتي، كلوا مما أكلت…”
سؤالٌ ثانٍ إلينا نحن: هل كانت تلزمنا الحرب كي نختبر مواطنتنا؟
أو: كيف كانت السويداء التي جاءت إليها أم عبد الله؟
كانت المرحومة حماتي وقبل أن تبدأ بتحضير طبختها تتمتم: “مش لمين انسمى، لمين انقسم!” تؤمن أن الله وحده يعرف صاحب النصيب. وبعد أن تكيل من البرغل ما يكفي أهل البيت تغرف كمشةً فائضةً على نيّة إطعام ضيفٍ طارئٍ، أو عابر سبيلٍ، أو غريبٍ قد يدقّ باب البيت طالباً رزق الله والكريمين.
وما تزال أمي توصيني: “ما بحنّ عالعود غير قشره”. تقول وتعيد: لا تقلقي على الناس في المدينة، هنا “الطاسة ضايعة”، لا أحد يعرف أحداً، سيعثر واحدهم على أي عملٍ تحتيٍّ يبادله بقوت يومه، وإن ضاقت به الحال سيشحذ، سيطرق باب، أي بيت لا يعرفه ويستعطي. لكنّ أبناء القرى الصغيرة يعرفون بعضهم بعضاً؛ سيخجلون من تمريغ وجوههم في الشحاذة فيباتون على جوعٍ إلى أن يفرجها ربّ الكون.
كأنّ “فاليري آموس”، مندوبة الأمم المتحدة كانت تعيش بيننا حين صرّحت أن معظم المساعدات التي بُذلت للمنكوبين في سوريا جاءت من إخوانهم السوريين الأقل نكبة. إنها فطرة أهلنا التي لا نجيد الحديث عنها مثل آموس، لكننا ــ منذ وعينا ــ نعيشها، نسعى لأن نكون أبناءً طيبين لأهلٍ كريمين! فحين قدم النازحون إلى السويداء تفازع من أبنائها كلُّ ذي عرقٍ حيّ، وكأنّ القادم ضيفه الشخصيّ. بدأنا بتقسيم المسؤوليات: دوركم اليوم في إفطارهم، أو في أخذ هذا إلى الطبيب، أو في الاتصال بأهلهم، أو في ترفيه صغارهم في الحدائق. كنتُ سأشتري الطعام الجاهز في يوم دوري فجاءت سلفتي غير الموظفة وقد حسبت ثمن الطعام، وانتهت إلى اقتراح: أعطوني ثمن الغداء الجاهز، سأطبخ بنفسي في البيت، ومن فرق الثمن سأشتري لأطفالهم بيجامات جديدة، لا أملك مالاً أقدّمه، سأعطيهم من ثيابنا، أما الأطفال فلا بدّ أن يفرحوا ببيجامات جديدة.
صديقتي التي زارت عيادتي، تعرف أنني لن آخذ منها أجور المعاينة، نبتت في رأسها الفكرة التي لم نحكِ معا بها من قبل أبداً: “افتحي صندوق تبرعات ما راح تاخذي منهن حتى لو ١٠٠ ليرة، كلو بجمّع، وكل مبلغ ولو صغير بساعد حدا”.
وهكذا ولدت فكرة الصندوق في عيادتي، وفي كثيرٍ من المكاتب والبيوت…
ابنة صديقتي عمرها ٥ سنوات قالت للطفلة ابنة أسرة درعا التي استضافها أهلها: راح ننام أنا وإياك على سريري، وإذا بدّك نامي لحالك فيه… وابنتا صديقتي الأخرى فرحتا بمهمة سكب صحون الشوربة من الطناجر الكبيرة التي طبختها نساء المدينة، وتوزيعها على الأطفال! وابن صديقنا يقف رقيباً على أبيه حين يدقّ بابهم واحدٌ من مئات الأطفال المتسولين الذين صاروا يملؤون المدينة: “ليش بس ٥٠ ليرة يا بابا؟!” يعرف أن أباه بالكاد يستطيع تأمين حاجات البيت… يركض إلى حصالته الصغيرة ويقلب كل ما فيها من ليرات حجرية ويصبها بحنانٍ في يد الطفل ويبتسم في وجهه…
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.