اليوم الرابع 4/2
كذلك خرجت اليوم كي أتمشى في الممر، وقد بدت رؤية الشمس وحبالها الذهبية حلماً بعيد التحقيق، ومن عمق هذا الحرمان وهذه السنوات الكؤود ومن لمعان الشيب الذي احتل إطار الرأس الأصلع ترد وترقص ذكريات طفولتي وهي تتدحرج على البيادر الشرقية في بلدتي السلمية المحاذية والمجاورة للصحراء، كأن هذه الذكريات هي الأروع في هذه الحياة .. كنت أخرج لألعب جوار الطاحونة حافياً، والبيادر أمامي والأراضي الزراعية على مد البصر والحمائم الطائرة حلقات أمشي وأقف أمام باب كوخ لمربي رفوف من الحمام لقبه “سينو”. أركض حول الكوخ وأستمتع بصفيره وتلويحه برقعة الحمام والتي ينعتونها بالراية.
أسأل جادا بيني وبين نفسي أيمكن أن يكون هناك نور في هذا العالم ؟ .. ثم أسأل سؤال شك: هل هناك إله في هذا العالم ؟ .. وأسأل كذلك: لو كان هناك إله لا يمكن أن يكون هناك ظلم بهذا الحجم وبهذا العمق.
إن حكاماً من فصيلة الوحوش يستبدون بشعوبهم ويدوسون بالأقدام على الحق ومع ذلك يستمرون: ماذا يعني ذلك ؟ .. يعني غياب الله !!! وإلا كيف يكون موجوداً في وقت واحد مع هؤلاء الطغاة. إن وجوده يلغي الظلم ويلغي الطغيان.
إن حكام وطنـي العربـي كانوا دوماً إلغاء للحق وحضوراً للبطش. ولذا لا يمكن أن يكون الإله قد حضر يوماً مع وجود هؤلاء الخلفاء الظلمة والسلاطين القتلة، وحكام الطوائف الحاليين الذين تبدو الوحوش الكاسرة أرحم منهم بكثير . إنّهم إلغاء للإنسان وللحق والعدل.
اليوم الخامس 5/2
كل خمسة عشر يوماً أخرج للخدمة المهجعية، وهذه الخدمة تتمثل في الطبخ والتنظيف والجلي، وأخدم لمدة يومين يرافقني في هذه الخدمة المدعو بشير سليمان فمن هو بشير سليمان هذا ؟ .. إنه من بلاد حوران وبلدته تدعى ازرع ، معتقل منذ خريف عام 1981 وهو متهم بقراءة منشور وعدم التبليغ عنه . الجهات الأمنية اعتقلته من المدرسة وهو أمين سر الابتدائية وهو الآن في الأربعين من عمره. عازب وله أخ رباه على يديه، وعندما اعتقل كان هذا الأخ في الصف العاشر أخذ الثانوية بعد عامين، ومضى إلى اسبانيا لدراسة الطب، وعندما أصبح في السنة الأخيرة – وكان قد تزوج من إسبانية من غرناطة درست في كلية التجارة، وأنهت دراستها بعد عامين من زواجه هذا واستقراره – مات في حادث صدام دراجته العادية مع سيارة وخلّف وراءه ابنة لا تزال في عامها الأول.
وبعد أشهر سمع بشير بالحادث واعترته أزمة نفسية وعصبية لا مثيل لهما، الشاب المتوفى أولاً في ريعان الشباب، ثانياً كان للتو قد أنهى دراسته، ثالثاً هو في بلاد بعيدة، رابعاً له ابنة لا تتجاوز العام وزوجته شابه تخرجت من كلية التجارة، وهي غرناطية تموت في العرب والعروبة . وقد رأيت صورتها فأثر جمالها في أعماقي. إنها ذات عينين سوداويين وذات شعر فاحم، وجهها أسمر مشبع بالصفاء.
إن نسيت لن أنسى صديقي ورفيقي وزميلي في الخدمة بشير وهو يبكي وينشج . كان هذا الشقيق قد أرسل إليه في آخر رسالة أنه سيستقبله في إسبانيا فور خروجه والإفراج عنه . كما كان يحكي لي عن أختيه اللتين لم تتزوجا حتى الآن حزناً عليه، إحداهما من مواليد 1958 والأخرى من مواليد 1960. وقد زارتا في إسبانيا إمرأة أخيهما الأرملة وابنتها، وأحضرتا أكواماً من الصور عن قصر الحمراء والمعالم العربية.
أخدم مع بشير مدة يومين يتكلم أثناءها عن إزرع وعن والده الشيخ وعن حوران أيام زمان وعن والدته وعن أخيه الآخرالذي عاد من الكويت وهو يعمل حالياً في لبنان، وعن شقيقاته وعن هذا النظام , الذي قطع النسل والزرع وعن معاناته في هذا السجن الرهيب.
اليوم السادس 6/2
هذا اليوم وجه الملك حسين ملك الأردن خطاباً إلى الأمة العربية من إذاعة عمان يحث على الوقوف إلى جانب العراق. انقسم المهجع كالعادة إلى موقفين : موقف يرى بأن مملكة الأردن آخر من يحق له أن يتكلم عن الثورة أو الوطنية. فمنشأ هذه المملكة أساساً قام بقرار من تشرشل وزير المستعمرات آنئذ , أو وزير الخارجية ومساعدة مالية للجد عبد الله بن الشريف حسين لمنعه من إثارة المشاكل بسورية دعماً لأخيه فيصل ضد فرنسا، ولكي يكون له دور في الكعكة البريطانية، ومن يخون والده يخون وطنه، فالملك طلال كان وطنياً وعروبياً، ولكنه كان متهوراً أطلق النار على قائد الجيش الأردني “كلوب” الإنكليزي، فما كان من الإنكليز إلا خلع الملك وإيداعه في مصح عقلي في تركيا هذا مصير الملوك إذا أرادوا أن يكونوا وطنيين وأرادوا دحر الوصاية. ويؤكد هذا الرأي على أن الثورة العربية الأم التي قامت ضد السلطنة العثمانية الإسلامية متعاونة مع الغرب المسيحي هي بالأساس ثورة ملغومة غير وطنية لكونها اعتمدت على البدو أولاً وعلى المال الإنكليزي وخبرة الإنكليز العسكرية والجاسوسية (لورنس) ولذا فإن جيوش اللنبي كانت رأس حربة للصهيونية ولطعن العرب وثورتهم .
ويرى فريق آخر أن الملك استيقظ وطنياً وهو يقف مع صدام ضد السعودية وضد دول الخليج. آخر يقول بهدوء ورويه: إن خطاب الملك حسين لتشجيع صدام كي يتمادى، وتماديه يشجع أمريكا على التدخل ويخلق المبررات لتدخلها.
أكد الملك في خطابه على ضرورة مواجهة الهيمنة الأمريكية، كما هاجم الدول الغنية التي هي السبب في نشر الفقر في العالم، كما أدان عرب أمريكا المتعاونين مع إسرائيل وعرب النفط الذين يمولون هذه الحرب وضنوا على فلسطين والأردن بالدينار والدرهم . ودعا الشارع العربي أن يقف وراء العراق لأن العراق يخوض حرب الحق والعدل ضد التجبر والباطل!!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.