منذ ساعتين اتصل بي الموت, وأخبرني بصوته الضبابي والبارد بأنه يريد زيارتي.. فأجبته بالموافقة وأنّي أنتظره..
فرحت كثيراً, وأخيراً سأشاهد الموت شخصياً.. يا الله !.. كم هو جميل هذا الشيء, طبعاً.. أنا ولا مرة في حياتي شاهدت الموت بشكل شخصي, إنما فقط كنت أشعر به.
أحسست بالخجل, لأنه ليس لدينا في البيت فواكه وحلوى تليق بمثل هذا الضيف الجميل.. يوجد فقط شاي وقهوة.. وشراب للسعال.
رغم فرحتي تساءلت مستغرباً:
ـــ من أين جلب الموت رقم جوالي ؟..
خمنّت في سرّي أن صديقي مازن هو من أعطى الموت رقم جوالي.
مازن الذي كان قد اختفى في ظروفٍ غامضة من شوارع دمشق منذ عام.
تخيلت أن مازن المشاغب, هو الآن في العالم الآخر, يركب في باص كبير ويرمي من النافذة خلسةً قصاصات ورقية عليها رقمي, وفي شارعٍ ما.. عثر الموت على قصاصة ورق واتصل بي.
تماماً مثلما كنت أفعل أيام المراهقة, حيث كنت أرمي بقصاصات ورقية عليها رقم هاتف منزلي, ومقطع من أغنية لـ هاني شاكر, من نافذة الباص..
على أمل أن تعثر فتاةٌ جميلة على قصاصة.. فتتصل بي لتبدأ بيننا قصة حب و…
لكن.. لم يحدث هذا الشيء..
فقط, مرة واحدة.. اتصل عامل التنظيفات وقال لوالدي غاضباً:
ـــ رقمكم يلوث الشوارع.. وهو السبب بنشوء طبقة الأوزون..
أتذكر يا مازن عندما كنا نمزج الجنّ بالكولا في مقصف الصحافة بالجامعة, لنشرب ونسكر ونحن نختلس النظر للفتيات الجميلات؟..
أتذكر عندما ذهبنا إلى الــ…..
رنّ الجرس.. كم هو دقيقٌ في مواعيده صديقنا الموت !.
أسرعت إلى الباب وفتحته, ثم شهقت وأنا أرى مازن أمامي.
حضنا بعضنّا باشتياق ونحن نضحك.. قلت له:
ـــ يا خبيث.. فعلاً أنت تقلد صوته بشكل متقن.. بشرفي ظننت أن الذي تكلم معي هو الموت ذاته..
أدخلته إلى غرفتي حيث جلسنا, فجأةً.. دخلت أمي فعرفتها على مازن.
أمي غريبة الأطوار, منذ أن بدأت الحرب وسلوكها يزداد غرابة مع مرور الأيام.
وأنا أُعرفها على مازن, أدارت ظهرها وخرجت, حتى دون أن تسلم عليه.
اعتذرت منه وقلت:
ــ لا تزعل.. حقك عليّ.. إنها الشيخوخة وأمراضها..
ثم ذهبت إلى المطبخ حيث أعددت فنجاني قهوة.
وأنا راجع إلى غرفتي.. مررت من أمام باب غرفة الجلوس.. فسمعت أمي تبكي وهي تقول لجارتنا:
ـــ البارحة كان يتحدث مع ندى واليوم يتحدث مع مازن..
ـــ وأين المشكلة ؟..
سألتها جارتنا فأجابتها أمي:
ـــ المشكلة أنه لا يوجد أحد في غرفته.. لا البارحة ولا اليوم.. إنه يتحدث مع أصدقائه اللذين قتلوا..
سقطت الصينية من يديّ..
سالت القهوة على البلاط..
كعادتها أمي.. أخترع حلماً وأتركه يمشي في شوارع دمشق,
فتأتي هي.. وتخطفه.
الصورة: takahiro kimura©
يا سردك الجميل يا تاج الدين :)
رائع كعادتك مصطفى (:.. وأجمل ما في كتابتك خيالك الذي يتجاوز اللغة والمألوف.