إنفصال

انفصال

ريما سويدان

 

يريد الانفصال عنها..
كل إشارات جسده تقول أنه قد قرر الانفصال.

يجلسان على الطاولة متقابلين، وقد كان كل منهما قد تأنق بطريقته لهذا اللقاء. فستان شفاف بلون المشمش، رقيق كجسدها النحيل، ذا فتحة مثلثية من الخلف، تكشف عن القسم العلوي من ظهرها. يتدلى على طرفي الكرسي، ليظهر تلك الساقين الطويلتين، وليعكس لون بشرتها الوردي. حذاء أنيق ذو كعب متوسط الطويل. لها مظهر أنيق رغم بساطته، الظهر جالس بالرغم من أنها لم تستطع إرخائه كاملاً على الكرسي، القدمين متصالبتين والمشطين ممدودين بأناقة راقصة الباليه، كفيها ممدودين على الطاولة ولم تكن قد رشفت شيئاً من قهوتها.

أستطيع أن أرى وجهه، هادئ بتكلف، يجلس باسترخاء. كان قد اختار ثيابه بعناية، ألوان متجانسة قريبة للداكنة تعكس مظهر الحازم..”وهو يرتدي ملابسه كان يعيد في ذهنه ما يريد أن يخبرها”. يلتقط كوب القهوة يرفعه إلى فمه يأخذ رشفة وهو ينظر مباشرة إلى عينيها، ليبدأ بالكلام.

أراقب تعابير وجهه، لا تتغير كثيراً، كذلك همس صوته الخفيف الذي يصلني عبر ضجيج فناجين القهوة وآلاتها. واثق، بارد، يلقي خطابه بثبات..تحرك أطراف أصابعها الملقاة على الطاولة، تميل بجسدها قليلاً إلى الأمام علّها تفهم ما يُقال. على الأغلب أنه يستعير إحدى المقدمات المتعارف عليها للانفصال “أنالا أصلح لك، أنتِ بحاجة لشخص أفضل مني بكثير، لا أريد أن أظلمك معي، أنا واثق أنكِ ستجدين السعادة مع الشخص المناسب”.. مستمر هو بالكلام، وقد بدأت رحلة توهانها.

من أين لهم كل هذه الثقة من أن هذه المقدمات مازالت فاعلة؟ على أحدهم أن يكون خلاقاً ويأخذ على عاتقه مهمة إصدار ملحق يورد فيه صيغ جديدة لحالات الانفصال العاطفي ولا يسمح لأي من إناث الكرة الأرضية بالإطلاع عليه.

تبدأ دموعها بالانهمار، تحاول الكلام فلا يسعفها صوتها المخنوق. يحتضن كفيها فتتشبث بهما، يسحبهما قليلاً وهو مستمر بالكلام. تطرق بنظرها..أشعر بثقل عضلات وركها وقد استرخت، كمحارب كان قد قرر الاستسلام.

يحاسب النادل ويهمان بالمغادرة، يضع يده على كتفها ويقربها منه وهو يردد عبارة “ستكونين أفضل”. ترخي رأسها على صدره متمنية الاختفاء فيه، لكنه غير موجود. تحركه بلطف كالقطة محاولة استحضاره عن طريق رائحة جسده..عَبث.

أراهما من خلف زجاج واجهة المقهى. مازال مستمراً بالكلام، بثقة العارف بكل خفايا الحياة يطمئنها بأنها ستكون بخير. خوالج توهناتها تمنعها من سماع أي شيء، هي فقط تبحث عن جواب لذلك السؤال “لماذا”؟ يضمها استعداداًللوداع..

أردت أن أصرخ وأتوسل إليه أن لا يتركها هنا وحيدة، أوصلها للمنزل، ضعها في سريرها، أمسك يدها حتى تغفو. نعم، ستستيقظ وقد ملأت دموعها وسادتها (فليس للفراق إلا شكل واحد)، لكن دفء انطباعات وداعك على روحها، سيساعدها لكي تلملم ذاتها.. إلا أن أصابعي تجمدت على لوحة المفاتيح.

يُهم بالصعود إلى سيارة الأجرة، الباب مازال مفتوحاً “يا أيتها الآلة إنها لحظتك لتتدخلي، ارشقيه بواحدة من تعويذاتك السحرية ودعيه يطلب منها مرافقته”. تُراقب تحرك السيارة علّه يُريح روحها الحائرة بنظرة.. العبث مرة أخرى.

على الرصيف وحيدة تبكي، تائهة في دوامة حرارة أفكارها. تضغط على حقيبة يدهها بقهر، الأقدام بحيرة أي الطرق تسلك..

بترقب طفولي أنتظر، هل هو ذلك الشارع العريض الواضح، الصاخب، الممتد على اتجاهين متعاكسين. أم ستجتاز زاوية المقهى وتختفي في سراديب الحارات الخلفية، العابقة بذاكرة العشاق؟

– مزيد من القهوة؟
– نعم.. شكراً.

أين اختفت؟ أركض كالمجنونة، أفتح باب المقهى وألقي بنفسي خارجه.. “كانت هنا، مازلت أشعر بحرارة يدها على الحقيبة، تضربني تموجات طرف فستانها. ” أسأل ذلك المدخن المرتكي على حائط المقهى، فيجيب بالنفي اللامبالي، أعبر زاوية المقهى أنظر في الأفق علني أرى خيالها، اختفت.

مكسورة الخاطر أعود إلى المقهى، أبحث عن بقايا رائحة فناجين القهوة، أسأل النادل عنها فيرمقني بنظرة استهجان. “آه، رجاءً اعفني من نظراتك. وكأنني كائن فضائي غريب الأطوار قادم من العالم الآخر.. ليس ذنبي أنك لا ترى غير فناجين القهوة”

أعود إلى طاولتي، ألقي بجسدي على الكرسي، أحملق بشاشة الكمبيوتر.. والآن ماذا!!..

 

 

 

الصورة: Takahiro Kimura ©

عن ريما سويدان

ريما سويدان
صبية سورية مغادرة الوطن من أكثر من عشر سنوات

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.