15 شهيد وعشرات الجرحى جراء سقوط قذائف هاون على كلية الهندسة المعمارية - 2013/03/28

حب فراغي

المجدلية
 

تجمدت الأحلام في براد مشفى المجتهد، وبقيت كلمات الحب كأرجوحة في الهواء على شفاهه الزرقاء التي اتخذت شكل ابتسامة. هذا عبد الرحمن ..هذا هو يا إلهي!! قالها أحد أصدقائه وتجمد أمام الجثة المسجاة في براد الموتى. صرخ وائل:كيف سنخبر والدته يا الله كيف؟؟!! تعالت الأصوات خلفهم حول الجثث العشرة في البرادات “الله يرحمهم شهداء ..شهداء .. الله يتقبلهم .. يلا يا شباب شدوا الهمة إكرام الميت دفنه”. وصدحت الأصوات بحرارة تدفئ برودة المكان: لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله..

صرخ آخر: يا شهيد ارتاح .. ارتاح واللـ.. فأخرسه أحدهم. حُمل عبد الرحمن على أكتاف أصدقائه تاركاً باقة الورود الحمراء، التي جلبها لسارة، لتختلط بتلاتها بدماء الطلاب، سارة أيضاً كانت ضمن الـ 29 مصاب يومذاك، إثنان منهم في حالة حرجة. كان حب عبد الرحمن وسارة في واقع مزدحم بالموت ..جمعتهما الأفكار بشكل يومي. وعسندما يشتاقها، كان يزور صفحتها الشخصية، تاركاً آثراً لخطواته إما بإعجاب أو تعليق على منشور كتبته. وفي المساء، يتحادثان عن مجمل أحداث اليوم والأوضاع الراهنة والمحاضرات التي انقطع عبد الرحمن عن حضورها بسبب أوضاع الطرقات الواصلة بين دمشق وكفرنبل.. أخيراً، يختتم الحديث مرسلاً قبلة إلكترونية، فترسل له سارة باقة من الورود مع كلمة “انضب وقوم نام عنا دراسة بكرة ..الفحص على الباب” .. فيرد ضاحكاً بأغنية لمارسيل خليفة: سارة …”بغيبتك نزل الشتي .. قومي طلعي على التشات..” فترد: بغييبتك نزل 8 محاضرات نظريات تخطيط مدن و10 محاضرات إحياء مباني ومحاضرة وحدة بعنوان اشـــــــتقتلك .. مؤلفة من 100 صفحة ويزيد! ويضحكان. قبلة وورود ومطر وشوق …

لو نبتوا في تربة الأسلاك الضوئية الخصبة لأذابوها، أما في ظل انقطاعات الشبكة العنكبوتية المتكرر في مدينتيهما المحاصرتين، فلا سبيل لينمو العشب في أحلامهما إلا برسائل من شأنها أن تبقي الآخر حاضراً في المخيلة رغم معرفة كل منهما أنها لن تصل له أو يمكن أن تصل متأخرة، ليتوحد الموقف وتطل الكرة الخضراء مجدداً في الحالة الفيسبوكية عقب رجوع الشبكة للعمل بعبارة “من كفر نبل.. هنا دمشق – من دمشق ..هنا كفر نبل”.

كان الحب بطل المشهد، أجمل ما حدث أنهما تلاقيا بلا اسئذان، انبثق حبهما من رحم الثورة والحرب، وكٌتب كلاً منهما قدراً للآخر…كان حباً واشتعل المكان ولكن متى؟؟ ..أكانت ليلة المجزرة أم تعليقاً على خبر تفجير حافلة؟؟ في إحدى المرات هاتف عبد الرحمن سارة وسألها عن محاضرة مبادئ التصميمات التنفيذية، فأشتكت له عن سماجة دكتور المساحة والتوثيق المعماري لإلحاحه على الطلاب بالحضور، رغم الأوضاع المتوترة في دمشق، مهدداً إياهم بالرسوب في المادة في حال عدم الحضور…فقاطعها ممازحاً: وما أخبار محاضرة الحب الفراغي؟؟ فردت ضاحكة: رائعة كروعة لافتات كفرنبل !! فضحك ثم فاجأها بأنه سيأتي في 28 من آذار ليلتقيها في مقصف كلية الهندسة المعمارية. سنلتقي أخيراً. صرخت في سرها، لكنها بدل أن تخبره عن حجم شوقها لتلك اللحظة أخبرته عن سلام حمودة “بائع العلكة والمحارم” له وحزنها لنزوحه من منزله ومن ثم إلى بيروت ليبيع العلكة الى طلاب الجامعة الأمريكية، ثم تمنت له رغم قلقها الشديد برحلة آمنة إلى دمشق وألحت بأن يؤجل سفره ويعود أدراجه في حال علم أن الطرقات متوترة.

يا لما ستتركه هذه التفاصيل من صدوع في ذاكرة سارة! تُحدث نفسها باكية مساءً: في المقصف، كانت قهوتنا الأخيرة يا عبد الرحمن .. آه يا عبد الرحمن هل كانت فيروز تغني لنا: ما منتلاقى إلا وقت اللي منتودع؟ هل كانت وروداً حمراء تلك التي جلبتها لي أم دمك يا عبد الرحمن! لماذا لم نؤجل الموعد إلى تاريخ آخر ومكان آخر؟! هل كان سينال الموت منك أيضاً؟! هل كانت قذائف الهاون تلك ستصيب قلبك الطيب لو التقينا في مقصف الحقوق مثلاً؟ تتقاطع الذكريات في الغرفة بصوت مارسيل “يا ريت لا سرجت الفرس ولا بعتت هل المرسال….” تذكرت حمودة البائع، – كم كان عبد الرحمن يحبه – تتمرمر ذاكرتها بالسكاكر والبسكويت ربما هو الآن يقص عليهم هناك في بيروت حكايتنا وما تحمله ذاكرته الطفولية الناضجة – وكأغلب الأطفال السوريين – المفعمة بقصص الشقاء والبؤس وصور التفجيرات والقصف والدماء … بينما تستمر أغنية مارسيل “بيتي مثل ورقة احترق ما عاد عندي أهل … في مملكة عم تنسرق مفتوح باب القصر….

سارة وعبد الرحمن قصة حب سورية – أو ربما سوريالية – حيث تدخلت قذيفة هاون لتضع لها الخاتمة في مقصف كلية الهندسة المعمارية في دمشق صباح 28/3/2013 لتأخذ عبد الرحمن إلى الموت وسارة ..للأغاني.

 

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

3 تعليقات

  1. الموت الرائع ،هو بداية الحب الرائع

  2. ئديشا بتجنن…الله يرحم كل عبد رحمن بهالبلد و يصبر كل السارات يارب :(

  3. ما قرأت أروع من هالقصة .. أثرت فيّ بشكل جميل ..
    جميلة جداً .. جداً .. جداً ..

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.