اتصلت أمي بي قالت لقد صار لي حساب على الفيس بوك. أريد أن أضيفك لوحدك لأقرأ ما تكتب. فرحت و(بوزي) وصل لما وراء أذني من اصطهاجي بهذا الخبر.
أغلقت الهاتف مودعا وبدأت قطعان الهوس تنهشني. شو لازم أكتب هلق؟ أنا الذي لم يخف يوما من مخبر سرسري تافه ولا من غيور لئيم يعمل لي بلوك أو يلغي صداقته معي، لم أجامل بمقدار ما تتسع له مساحة الزراق، ولم أدع الموضوعية. انحزت، بكل ما لدي، لما علمتني إياه بالضبط. ولكن ثمة بيرق من القلق يرفرف فوق رأسي.
ولكن أن تكون أمي على قائمة القراء على صفحة مطبوعة بالمزاج الخاص جدا. جعلني استنفر كل قدراتي الرقابية. وخاصة أني سأكون كاتبها الوحيد التي تقرأ له.
يعني لا أكاد الجبل يشيل عني الحمل.
ولا عبود سعيد سيكون من دائرة اهتماماتها القوقازية.
ولا لقمان ديركي الذي يوزع حصص هههههههه على الجميع بالتساوي سيعنيها.
لكنها ربما سترى اسم سيهانوك ديبو أو جيان الحاج يوسف وعامر عثمان، وباقي أصدقائي الكورد وتقول لهم اشتقنالكم يا خالتي طولتو الغيبة علينا”,
وستبحث من دون شك عن أسماء بعض من أصدقائي الراحلين في غياهب البلوك وستحزن أن صاحبي الشمري ألغى صداقته معي، ربما لأنني أحب صخر حاج حسين ولا أراه طائفيا. وأن صديقا تعرفه، زعل مني لأني وضعت فيديو لثوار داريا يرقصون على أغنية لترحيل (اسكين) سوريا وحقيرها إلى الجحيم. وهنا سأقول لها أما من امرأة حرة، تحرقه في تنور خبزها. وتريح هذه البلاد من سفالته؟!
ستسأل عن كل من زارنا، وأعدت طعامه ونام في بيتنا.
ستمتد قائمة طويلة من الأصدقاء من الساحل إلى الوسط إلى أقاصي الشمال الحزين من كل أطياف سوريا وطيوفها. كان بيتنا يتسع لثمانية عشر مذهبا، وثلاث قوميات.
هل أجرؤ أن أقول لها. إن بعضهم اليوم يا أمي يشتمك، أقصد، يشتمني بك. لأني أريد سوريا خالية من كل الوحوش والأسود والنمور والضباع والقوارض.
أريد أن أراهم فقط في حديقة الحيوانات أو السيرك. لا أن أعيش في حديقة بني الوحش وأكون مهرجا في سيرك.
مستحيل أن تصدقني. هي تعرفهم واحدا واحدة، تسأل عنهم واحدا واحدة. هل أجرؤ على أن أقول لها إن بعضهم قد مات، وبعضهم قد نزح، وإن مناخ الروح قد تغير يا غالية. إنها تمطر عليهم هناك براميلا وصواريخ وقنابل محشوة بالسارين.
أمي الشيخة الدرزية الطيبة، التي تعرف الحقّ من صوت أصحابه، وتعرف أن الدكتور أحمد الحريري ابن بصر الحرير، كان شقيقا لنا، وأخا لنا وإنه لا يمكن لكل إعلام العالم أن يغير رأيها بنبله وشهامته ويصوره إرهابيا.
ستصرّ أمي على حقيقة قلبها وتغص وأنا أسالها: هل ما زلت تعيّرين توقيت نهوضك في الصباح على آذان مساجد بصر الحرير؟
وستجيبني: ليش يا أمي ظل في بصر الحرير، يا حسرة قلبي يا أمي على بصر.
ستجهش أمي بكل ما تبقى من حرير قلبها، فأبعد السماعة كي أتماسك قليلا، واستجمع كل طاقتي وأسألها عن شجرات الزيتون في حاكورة دارنا:
أما زلت تغنين لهم يا جميلة يا وسيمة يا أحلى نساء الأرض؟
فتقول: أرسلت لك سفط من الزيتون تذوقه وتعرف.
ستتوق أمي لما أكتب وعما أكتب. وأنا المشتاق لروائح مَمْلوكها وفوطتها الجورجيت القديمة قبل أن تستبدلها بوشاح شديد البياض كنقاء قلبها، وبحة الألم الفريد بصوتها الشهي.
والنتيجة أن كل ما كنت أنوي نشره منذ تلك المحادثة حتى اليوم توقف تماما.
إني خائف من أمي، خائف على صورتي عندها، خائف أن أخذلها أو أوجعها خائف عليها وعلى ما تبقى من سندس أحلامها. يا إلهي لماذا خلقت الأمهات؟
بقليل من التأمل وجدت أننا (لن أقول كعرب أو شرقيين) لأن ما يحدث في سوريا جعلني أتأكد أننا من جنس بشري لم يتطرق إليه علم الميثولوجيا وينقض ثلاثة أرباع أفكار عباقرة البيولوجيا. إننا متعلقون بالأم، دوّر على الأم ولِمّ، تقول الأمثال.
كيف تتحول الأم إلى الرقيب العجيب الذي يخصي الفعل والموقف والرأي باسم الأمومة؟
كيف مازال جلّنا ( ذكور وأناث ) متعلقون بالمرحلة الفموية، لايستطيع أن يكون صريحاً أو واضحاً أو محدداً ويحتال على اللغة كي يصل إلى الثدي المفقود؟
كيف أن جلّنا مصابٌ بداء ولعنة الأمومة ولا يعرف عنها سوى التقديس أو التدنيس، فينال من أمهات الأعداء. ويعلي من شأن أمهات الأصدقاء؟
أمي أهلا بك في عالمي المصطنع حيث أخاف قليلا على صورتي هنا.
خسرت أوغاداً وكسبت أهلاً ومازالت كما تركتني قبل سنين طويلة. أتوق لأندس في حضنك الأجمل. وأقول لك سامحيني يا أمي. لم تسعفني الحياة لأتعرف عليك أيتها الصبية العامرة بالخيال والجمال سوى من نافذتها الأضيق أن تكون فقط أمي.
بينما يليق بك أن تكوني أجمل نساء كوكب الأرض وأشهى نساء كل المجرات.
اللوحة للفنان العراقي: مؤيد محسن
:(
رائعة و مؤثرة جداً