مراد السيد
في المطار البارد البعيد نظر إليَّ ضابط الجوازات بفزع وإستغراب وهو ينقلُ بَصرَهُ بين رأسي وبين صورتي على جواز السفر.
أين وَجُهكَ يا بنّي؟
أنا: لقد ألتصقَ يا سيدي بزجاجِ نافذة الطائرة عندما غادرت دمشق. كلُّ ما أتذكره أنني كنتُ أنظر بحزنٍ إلى دمشق أو ما تبقى منها والدموع الخضراء تنهمر من عيني كالطحالب بينما كانت الطائرة تحلقُ أعلى وأعلى… حاولت الإلتصاق أكثر والنظر نحو الأسفل كي أرى قدر ما أستطيع، لكن الغيوم حجبت كل شيء ولم يعد بمقدوري رؤية أي شيء سوى ضباب كثيف يغمر كل شيء، عندها حاولت أن أعود إلى الإسترخاء على مقعدي لكنني تفاجأت بأن وجهي ملتصق بقوة بالزجاج وكأنه أصبح جزءً منه…
في البداية حاولت سحبه بهدوء لكنه لم يتحرك من مكانه. ثم أتت المضيفة وحاولت مرة تلو الأخرى أ ن تسحب رأسي وهي تكبت ضحكة ساخرة… لكنها بعد أن فشلت تحولت تلك الإبتسامة إلى عبسة غطت وجهها وأصبحت العصبية تتسلل إليها ببطء حتى أصبحت قريب الإنفجار بعد أن فشلت جميع محاولاتها بتخليص وجهي من الزجاج.
ثم ما لبث أن أتى طاقم الطائرة بأكمله وفجأة وبعد عدة محاولات تم تخليص رأسي من الزجاج ولكن دون وجهي حيث بقي ملتصق هناك وكأنه لم يكن جزء مني.
بعد كل تلك المحاولات الفاشلة باستعادة وجهي، حاولت أن أقنعهم بأن يقوموا بقص ِّ الزجاج كي أحمله معي أو ألصقه مكان وجهي كي يتعرف الجميع علي، لكن ذلك كان غير ممكن لأن الطائرة لم تكن لتحَلق إن كانت أحدى نوافذها دون زجاج وما كان مني إلا أن تركته هناك وغادرت نحو الملجأ الجديد وعزائي الوحيد أن وجهي سيعود إلى دمشق حيث يمكن أن يراها في كل رحلة من وإلى دمشق وما كان على طاقم الطائرة إلّا أن يعلقوا ستارة على تلك النافذة كتب عليها (ممنوع النظر من هذه النافذة)
حاولت أن أهاتف أمي كي تذهب الى المطار وتراني مرةً أخرى قبل أن يذهب البكاء ببصرها لكنني تذكرت أن فمي بقي هناك أيضا فنسيت الفكرة تماما.
مسؤول الجوازات: حسنًا ولكن كيف يمكن أن تكمل حياتك بهذا الشكل؟
– سأتدبر أمري يا سيدي، دعني فقط أدخل الى بلدك الجميل البارد، وسأرسم ملامح البهجة بعينين فرحتين وفم ضاحك كالأبله أو أي تعبير تريده فبعد اليوم لست بحاجة الى أي تعبير أخر فحتمًا لن أحزن أكثر مما حزنت
ولن أبكي مثلما بكيت
ولن أتفاجأ مثلما تفاجأت
ولن أصدم كما صدمت
ولن أعبس كما عبست
ولن أتألم أكثر مما تألمت
ولن أكون أكثر برأة مما كنت
ولا أكثر قسوة مما كنت
ولا أكثر فرحًا مثلما فرحت
ولكن من الممكن أن أختار أي شكل بليد فلن أحتاج ملامح متحركة يا سيدي، فلم يعد يتحرك شيء بداخلي بعد هذا اليوم .
– ولماذا؟
الحب لا أحد بحاجة إليه.
الشوق لم يبق شيء على حاله أو أحد لأشتاق إليه.
الشفقة لم تعد تجدي أحد.
الغضب لم يعد ينفع.
الحزن على ماذا؟
الخوف على من؟ أو مِن من؟
لم يبق لدي إلا طلب وحيد
أريد أن تمنحوني منزل في أبعد مكان في الشمال في قمة القطب الشمالي، مع رفش صغير وقالب أذرف فيه دموعي وأصنع منها بعد أن تتجمد لبِّنات أبنّي منها بيتي كالأسكيمو.
سؤال أخير: ما يحيرني يا بني، كيف يمكنك أن تبكي وأنت بلا عيون
أنا: ومن قال يا سيدي أنَّ السوري اليوم يبكي من عيونه
الصورة: تفصيل من لوحة “ليس لإعادت إنتاجه” لرينيه ماغريت
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.