اختبار رورشاخ- ديزيري أوساندون
اختبار رورشاخ- ديزيري أوساندون

ويليام

رغم كونه طبيبًا نفسيًا، الشيء الذي يضعه وجهًا لوجه مع مختلين، مجرمين، مرضى ومعقّدين. لم يعتد على اقتحام عيادته من قبل سكيرٍ غاضبٍ، ما لبثَ أن دفع الممرضة جانبًا لتتلقفها الأرضيّة الخشبية، وأخذ يشتم الباب اللعين الذي “لا يُفتح!”.. تطلّب منه الأمر وهلةً ليدرك أن الباب يفتح نحو الخارج..
– آه! ها أنتَ ذا د.ويليام! ظننتُ أنني لن أصل إليك في الوقت المناسب!
– خيرٌ! عساه خيرًا! أخبرني عزيزي.. ما خطبكَ؟
– ما خطبي؟ حسناً، سأخبرك ما خطبي، أو ما الخطب العام..
“الخطب العام”… هذه لا تبدو عبارةً صحيحةً.. أهي كذلك د.ويليام؟ تبًا للغة وتعقيداتها المتكلفة اللعينة.
– ليسَ مهمًا، أرجوك، قل لي.. ماذا تريد؟
– ماذا أريد؟ أريدُ حياةً مستقرةً؛ بيتًا ذا طابعٍ كلاسيكي في الضواحي، أقطنهُ وأسرتي الصغيرة الجميلة.. زوجةٌ شابةٌ بشعرٍ ذهبي وعينين خضراوين، وطفلان؛ ولدٌ وبنت، وسيارةٌ عائلية بمؤخرةٍ كبيرة لأصطحب فيها ابني ورفاقه إلى ملعب البيسبول..
ولكن الحياةَ لا تسير على هذا المنوال، أليس كذلك؟ حسنًا، إنها لا تفعل!
– اجلس، من فضلك، وضع زجاجة الخمر جانباً لو سمحت.
تلفّت السكير مرارًا إلى أن استقرّ على مقعدٍ جلديٍ طويل، مد قدميه على طول المقعد، مزق الكيس الورقي المحيط بزجاجة الخمر الكبيرة.. وحدق في السقفِ مطوّلاً..
ذُهل الطبيب النفسي لفرط هول الموقفِ، عدّل وضع نظارته الطبية بحركةٍ لطيفةٍ، ثمّ قال:
– والآن، سيد..؟
– آلان، يمكنك مناداتي آلان
– حسناً، سأفعل، إهدأ
– أنا هادئٌ جداً!!
– لا بأس، لا بأس، والآن أخبرني.. ما الذي حصل مؤخراً و أدى إلى هذا كلّه؟
– كما ترى، د.ويليام، أنا موظف عادي في شركة تأمينٍ عادية، عشتُ طفلًا عاديًا، فشابًا عاديًا، درستُ في مدارس عادية، تخرجت تخرجًا عاديًا.. وكما أخبرتك مسبقًا؛ أردتُ أن أكمل حياتي على هذا المنوال، راضيًا كل الرضا بما آلت إليه حياتي مذ كنتُ عروسًا ذكريًا مفرد الصبغة الجنسية في إحدى خصيتي أبي.. ليتني أستطيع العودة بالزمن لأركله في فرجه وأرتاح..
– حسنًا كل هذا جيدٌ إلى حدّ الآن، أين المشكلة في كل ذلك؟
– أوه، أنت لا تفهم! أنّى لك؟ أنتم طبقة المخمليون تعيشون في أبراجكم العاجية بعيدًاعن عامة الشعب.. الأطباء، المهندسون، الكتاب، تجار المخدرات والسلاح والقوادون.. كيف ستفهمون معاناتنا اليومية؟
الحياة أضحت قاسية جدا في الشارع، الحياةُ كلبة لقيطة.
السكارى أمثالي يملأون الشوارع، ينامون على مقاعد الحدائق وأسفل الجسور، الجثث تملأ الشقق الفارغة وأقنية الصرف الصحي.
هل حاولت أن تقتطع نصف كيلوغرام من اللحم من فخذ جثة امرأةٍ ستينيةٍ مفرطة السمنة؟ إنّه أمرٌ صعب جداً في الحقيقة، واللحم قاسٍ وعَفِن..
الناس المقتدرة تعيش على الأرز المسلوق والبطاطس، الخبزُ لم يعد يؤكل مذ أعلن المحافظ عن نقصٍ حادٍ في دقيق القمح واستبداله بالنخالة والشعير.. الخبز أصبح مراً.
خاننا! حتّى الخبز خاننا!
انتفض السكير في مكانه، فترقّب الطبيب حركةً لن تكون قطعاً ظريفةً..
– أوه! أنا آسف، آلان، أنا كذلك حقاً..
– هُراء، لا تنطقون إلا بالهراء، أنتم حفنةٌ من المدللين والشواذ والداعرين، أنت لا تعرف شيئاً، لم تختبر الحياة الحقيقية، لم تجرّب الخيانة والغدر والظلم والقهر والذل.. هل سبق لك أن عدتَ إلى منزلك بعدٍ يومٍ طويلٍ من صراخ مديركَ الدّاعر في وجهك طوال النهار لتجد عشيقتك تمصّ قضيبَ ابن عاهرةٍ زنجيٍّ على سريركَ؟ لا أعتقد.
هل اضطررتَ مرّةً، لشدة إفلاسك مادياً ومعنوياً، أن تسرقَ عجوزاً بأن تضربها على رأسها من الخلف بزجاجةِ خمرٍ فارغة كنت قد سرقت ثمنها أصلاً من عجوز أخرى؟ لا أعتقد.
هل جربت أن تهشم واجهة محلٍ زجاجيةً بقطعةٍ من الطّوب فقط لتدخل إلى السجن؟ ذلك أنّه لا مكان آخر لديكَ لتنام… أنا متأكدٌ أنّك لم تفعل.
إذاً، د.ويليام، كيف تدّعي أنّك تأسف لحالي، وأنّك تعرف كيف هي الحياة في هذه الدنيا القذرة؟ هاه؟! تكلّم!
هل ستقول أنك تفهم تماماً ما أمرّ به؟ كيف ذلك؟ وأنت حتى لا تحضر لنفسك كأس ماءٍ، تنادي تلك اللعينة فتفعل لك ما يجب عليك أن تفعله.. ماذا كان إسمها؟
آه! تذكرت؛ سكرتيرة،
اسمٌ مشجّعٌ في الحقيقة، اسمٌ يدل على البلادة والخمول.. أكره السكرتارية، السكرتارية أحقر ما رأيته..لو خُيّرتُ؛ سأفضل أن أتناول مؤخرة تلك الستينية على الإفطار.
– أنا..
– ماذا؟ أنتَ ماذا؟
– أنا لا أملك شيئاً لأقوله في الحقيقة.. سيد آلان.
– بالطبع لا تفعل! ولكن، من يلومك؟ طفلٌ ثريٌ أبله..
لا تخف على مكتبك الأنيق وثيابك المبتذلة وكتبك الكثيرة،
أوه! إنها حقاً كثيرة، د.ويليام
أستطيع، صدقاً، أن ألف خمسةَ آلاف سيجارة ماريجوانا بواسطة ذلك الكتاب.
– هذا كتاب “القانون في الطب”، لإبن سينا
– سينا؟ هل هو ابن عم جون سينا؟
– كلا، ابن سينا طبيبٌ وعالمٌ كان…
– هُراء، بما أنك تعرفه وأنا لا أفعل فلابدّ من أنه كان ابن عاهرة، على كل حال، شكراً لوقتك د.ويليام… سأرحل الآن
أين ذهب الباب؟ آه!، ها هو ذا!
وداعاً أيّها المخنّث..
مُثقل الخطى، خرج الطبيب النفسي الشاب من غرفة العيادة إلى مكتب الممرضة.
لا أستطيع أن أتحمّل أكثر، تلفت أعصابي، سأتصل اليوم بالحداد.. لابدّ من بابٍ فولاذيّ وجرس داخلي.
– حسناً د.ويليام، هل تريدني أن أرمي زجاجة الخمر تلك؟
– دعيني أتفقّدها أولاً،
أوه! بحقّ الجحيم لن ترميها! هذه “جاك & دانييلز”!
أعني، قد يكون المسكين سكرتيريَ السابق المصاب بانفصام الشخصية، لكنّه ذواقةٌ فيما يتعلق بالكحول.
سأذهب الآن يا “سوزان”، يمكنكِ إغلاق العيادة والانصراف..

قبل أن ينزل الدرجة الأولى، فكّر :
“هه! يظنّ أن السكرتيرة ليست شيئاً جيداً، أليس كذلك؟”
ومضى.

عن علي مصطفى الدرزي

علي مصطفى الدرزي
شاب سوري، فقط.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.