الأصواتُ غريبة جدّاً في رأسي.. هلوسات هذا المساء لا تكفي لأن أكتب لكِ شيئاً يا “هياسينث” (1)طائر أزرق اسطوري سحري.. الأصوات تتردّد بتناغم أشبه بفحيحِ مجنزة وأنا خائف جدّاً ومرتبك..!
السّاعة على معصمي متوقفةٌ منذ السّنة الماضية، تشير إلى الساعة الحادية عشر وثلاث و عشرينَ دقيقة، صباحاً أم مساءً لا يهم، صرصور عنيد ينزلق عن حائط غرفتي، لكنّني لن أعيرهُ انتباهاً، أنا أبحثُ عن كتابة النصّ الأكثر انتصاباً وبذاءة.
أنا نصفُ مدينةٍ على خطّ التّماس، مهجورة بالكامل، شراييني مرصوفة بالجثث والكلاب الشّاردة، عيناي مرفآن لسفن الغارقينَ في المتوسّط توقاً للقاءِ المخلوقات الشّقراء في الجهة الأخرى لهذا الكوكب المريض.
لمَ نكتب يا “هياسينث”!؟ إن كان هذا العالم المترهّل فوق صهيل شهواتنا سينهار تاركاً في الكون فجوةً لن يملأها شيء، فاسحاً المجال لحدود الشّرخ أن ترتخي مغطيةً نقصه، كم يشبهنا هذا الكون، يرمّم نقصه المادي بتندّب مشوّه.العالم المنهار سينتبج، يتحطّم، هنا تماماً ستغدو الأشياء – كما المبادئ – مهدّدة بالسّقوط إثرَ الزّلزال العنيف.
لأجل كلّ هذا وضعت في صدري قلباً إسفنجيّاً يمتصّ ارتطامي ويحول دون أن أتكسّر كإناءٍ زجاجي، أو أن أتفتّت لغبارٍ تذروه الرّياحُ فوقَ الأشجار.
أمشي لا أكترثُ لما يدور حولي، غارقٌ في ذاتي، متخبّط.. متناقضٌ دوماً.. قديسٌ أحياناً.. لكنّني أشدّ السّفلةِ المخبولينَ جنوناً في هذه المدينة.. أزحفُ على بطني في الأزقّة.. كحدأةٍ قبيحة نتنة.. باحثاً عن فريسةٍ للعشاء.. أقرأ الشِّعر.. أتفلسف.. أتبجّح أمام النساء.. أناقشُ في الدّين والسّياسة.. أفعل أيّ شيْ يملأ وحدةَ فراشي ليلاً.
أراقب تندّي أثداءَ المراهقات مثل عجوزٍ في السّتين.. بعضوٍ مترهّل و ذاكرة بائسة.. ينفضُ الموتَ مع الغبارِ عن باب منزله.. أفعل أيّ شيء يضمن استمرارَ شعوري المرتاب بطعم الحياة.
الحياة تورّط يا “هياسينث”.. مسرحيّة عبثية بطلها مهرّج يرتدي ثياب إله، ونحن – في كلّ مرّة – نبدو كجمهور أحمق ساذج، نصفّق عندما نشاهد تساقط الشّخصيات موتاً، الشخصيات التي اختيرت عشوائيّاً من دكّة الجمهور..
الحياة أتفهُ من أن تكونَ ملحمة.. وضيعةٌ لا تستحقّ أن نضع لأفعالها المبرّرات.تخيّلي عالماً لا يحوي لغة، ليس فيه للألفاظ فحوى، ما الفرق في أن أقولَ لكِ أحبّكِ أو أن أصرخ كإنسانِ ما قبلَ التاريخ؟
ما الفرقُ إن لم أفعل شيئاً يثبت ما أقول؟ أرأيتِ ؟! إنّنا نُفضي بعضَ الغموضِ و التّعقيدِ على شكلِ الحياةِ لنهربَ من السّؤال المتكرّر عن مدى جدوى تشبّثنا بفكرة عدم الابتذال والسّقوط في هاوية التّقليد والنسخ، تماماً كهذه الجملة التي ليسَ لها معنى.
الحياةُ صخبٌ من لاشيء.. صرخةٌ في الفراغ.. مقارعةٌ بلا جدوى للموت الهادئ.. والاستسلام الرّخو.. جميعنا في هدوءٍ ما.. ندركُ هذهِ الحقيقة.. نعصرُ قلوبنا الإسفنجيّة.. نتقيّأ أنفسنا.. ثمّ ننوح.
المراجع
↑1 | طائر أزرق اسطوري سحري |
---|
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.