لست بصدد الحديث عن مدينةٍ خربة نالها من وابل طيران النظام ما يكفي لأن تنسج عجوزٌ منها ألف هنهونة حزنٍ فراتية، ولن أتكلّم عن ثلثي مساحتها المتحولة حجارةً تكفي لألف انتفاضة، ولن أتغنّى بزوارقها النّهرية وهي تروح وتغدو على أنغام الموليّة وشجن مواويل البُحّة الحزينة، إلا إنّني أتكلّم عن جوعها… جوع ديرالزور.
في حي الجورة الواقع في أقصى جوع المدينة، تهدهدُ أمٌّ طفلها الذي يكبر الحصار بأربع سنين، تزرع قبلةً فوق يده التي تاقت ملمس “ثرود البامية“، “نم يا بنيّ حتّى أخبز لك في الصباح أقراص “المشحميّة“، فينام ويحلم ببطنٍ ملأى بها.
يستيقظ الطفل بعد سويعاتٍ من الجوع، يُقاس عمر الأيام هنا بالجوع، يشدُّ قميص نوم أمّه….”يوم قومي اعمليلي مشحميّة، والله جعتو“
أمّه جاعت أيضاً، إلا أنّها قالت له“سأُخرج اللحمة من الثلاجة…عليك أن تصبر حتّى يذوب الجليد عنها“… “يوم الجمادة واقفة من زمان، عدّينو ما بي كهربا “
تقول له الأمّ أنّ لا علاقة للكهرباء بالثلاجة، ثم تعود إلى نومها، يُمسك الطفل قلماً ودفتر… يرسم رغيف خبز وقرص “مشحميّة” ونخلةً تشبه تلك التي في بيت جدّه… يحرّك فمه كأنما يتذكّر طعم بلحها.
يشدُّ قميص نوم أمّه مجدّداً “يوم ما تكون اللحمة ذابت؟“، فتُصمُّ الأمُّ أذنيها، يصمت الطفل دقيقتين، “يوم منين أجيبلجي حطب تاتشغلين التنور“، وتبقى الأمُّ على صمتها، ويعود الطفل إلى كرّاسة رسمه، يرسم رغيف خبزٍ أصغر من سابقه وقرص مشحميّةٍ أصغر، يفكّر في اسم الشيء الأبيض الذي كانت تضيفه أمّه إلى العجين واللحمة، فقد نسي اسمه وحتّى طعمته “يوم شكون اسم الشغلة البيضا التحطينها مع العجينة واللحمة“…تجيبه “شحمة” ثم تبكي وتضمّه إلى صدرها، ينظر الطفل بغرابةٍ إلى دمعة أمّه،
– “ليش تبجين يوم؟”
– لا شيء… تذكّرت أبيك، لو لم يُسافر لكان اليوم سيأكل معنا“المشحّميّة”
– “يوم..ليش بالجنّة ما بي مشحّميّة؟”
– لا هي موجودةٌ فقط في ديرالزور تردُّ عليه الأم،
– “إي خلص معناتو، راح اروح عالحديقة أحوشلجي حشيش تطبخينو اليوم، وتأجلين المشحّميّة تايجي أبوي”
بالطريقة نفسها أجّل الطفل طبخة “الكشاش” و“ثرود البامية” و “السيّالي” وغيرها وأكل الحشيش والخبز اليابس المبلول بماءٍ إلى أن يعود والده.
ليس على بعد جوعٍ كثير يقع حيٌّ آخر في ديرالزور اسمه القصور، حتّى المسافة تقاس بالجوع في هذه المدينة، يبدو للسامع من اسم الحيّ أنّه للمُترفين من مدينة النفط والغاز والقمح والفرات، يقف في عتمة الطريق شابٌّ ينتظر حبيبته التي تأكّدت من خلو الشارع من الشبيحة قبل تسلّلها من بيتها، يُغازل العاشقان بعضيهما بالعيون، يقرأ في عينيها أنّه تسأله عن سبب نحوله فتجيبها عيناه…دعكِ من نحولي، خبريني لماذا وجهك أصفر؟. لماذا يهيل السواد جفنيكِ كثوب جهاديٍّ جاء من أقاصي الأرض كي يجوّعنا؟، بحركاتٍ متباطئةٍ تشبه عاشقاً يُهدي حبيبته إسوارةً بين الخطوبة وكتب الكتاب، يناولها كيساً قال لها أنّ فيه كاسة سكّر وكمشة شاي، تُبدي حرجاً وتقول له: لماذا كلّفت نفسك كلَّ هذا؟، يُقسم أنّ حبّهما أكبر من كاسة سكّر وكمشة شاي، ثمّ يتوادعان، تعود إلى المنزل وتدخل غرفتها، تُفكّر كم سيسعد أبوها بكأس شايٍ ثقيلة وحلوة، وتدعو الله أن يُسهل هذا قرار موافقة أبيها على رجلٍ حقق له ولها حُلُم كأس الشاي الثقيلة والحلوة، ربّما على العاشق أيضاً أن يأتي بعشر سجائر لف بعد كتب الكتاب حتّى يأخذ ثقة حموه المطلقة.
هذه الكلمات لم تكن من قصّتين تخيّليّتين ولا برنامجاً إذاعيّاً لعُشاق التراجيديا والرومانس، هاتان حقيقتان من ديرالزور الواقعة شرق سوريا، والتي يُحاصر أهلها تنظيم الدولة، ويجثم على صدورهم جيش النظام السوري وتجاره.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.