(لك كل التحية والتقدير الدكتورة نجاة، في عام ٢٠٠٠ أصبتُ بطلق ناري بقدمي وتم اجراء عملية جراحية نوعية من قبل الدكتور مفيد عامر وعلمت مؤخرا انك ساهمتِ بإنجاح هذه العملية، وأنقذتما قدمي من البتر .أود أن أشكرك مع العلم اني قد تأخرت وقصرت بواجبي…)
هي كلمات رسالةٍ وصلتْ باسم صاحبها الصريح (ب. ح) إلى بريد صفحتي الشخصية في 2/12/2014.. ربما رأى ب. ح اسمي صدفةً، فتذكّر أنه ما يزال ينعم، منذ أربعة عشر عاماً، برجلين كاملتين كان يمكن أن تكون إحداهما مبتورة.
لم يكن لي أن أنسى تلك الجراحة، ولا الدماء التي سالت في “أحداث البدو”. يومها لم أهتمّ باسم الجريح، ولن تحضرني الآن ملامحه. رأيته يومها ممدّداً على طاولة العمليات، غائباً في غياهب التخدير، عيناه مغمضتان بلصاقتي بلاستر، ومن فمه يخرج أنبوب التنفس الموصول إلى عبوة الأوكسجين. كانت رصاصةٌ حيّةٌ اخترقت ساقه ومزّقت شريانها الرئيسيّ. ولأنه واحدٌ من جرحى ذلك النهار (إصابات كثيرين منهم في الرأس والصدر، أي أنها أخطر من إصابته)، لم يأتِ دوره في الجراحة إلا مع حلول الليل، وكانوا نقلوا له حتى حينها عدة أكياسٍ من الدم الطازج، ونزفها كلها. كان جميع الجراحين العامين منهمكين بعملياتٍ أخرى، وتوجّب عليّ، أنا جرّاحة التوليد الخريجة حديثاً، أن أساعد جرّاح الأوعية الوحيد في المشفى في عملية وصل شريان (ب. ح) الممزّق. عمليةٌ تجاوزت ثلاث ساعات. أنجز الجرّاح عمليته، وعند الاختبار حرن الدم ولم يجرِ عبر الوصلة المتقنة. أعاد المحاولة، ولم يسرِ الدم. محاولةٌ ثالثة، أيضاً فشلت. بدا الجرّاح الماهر في غاية الإنهاك، لم يكن غادر غرفة العمليات منذ الصباح، تنقّل بخبرته الطويلة، وبالطاقة الاحتياطية، وبطاقة الصبر، وطاقة الإيمان من عمليةٍ إلى أخرى، لكنّ حزنه الآن أبلغُ من إنهاكه حين وجد نفسه أمام خيارين مرّين: إمّا بتر ساق الجريح إنقاذاً لحياته، (إعاقةٌ مبكّرة لشابٍ كان في وافر العافية)، أو أن يتركه يموت الآن في ثلاثين عمره. عزّى الجراح نفسه أن بإمكان الجريح أن يصل ساقه المبتورة بطرفٍ صناعيّ، وقد تظلّ قرمةُ ركبته متدليّةً إلى الفراغ بينما يستند في مشيه إلى عكازٍ بدائي، فالمهم أن يبقى حيّاً. كاد ينطق بالتحضير لعملية البتر حين صرختُ له من جوفٍ محترق: “أرجوك يا حكيم.. إنه الجريح الأخير في معمعة اليوم. أرجوك؛ محاولةٌ أخيرةٌ قبل قرار البتر…”
كان الليل قد انتصف، والطاقم كله يتلوّى من التعب. ولم يتردّد الجرّاح في محاولةٍ أخيرة، ونجح، وسرى الدم في الساق الذابلة..
وسط فرحته الهائلة سألني الجرّاح: “وهل كنتِ واثقةً أنها ستنجح؟”
“نعم. لقد تمتمتُ ببعضٍ من كلمات كتاب الحكمة…”.
كانت الصلاة رجاءنا الوحيد الباقي بعد أن هدّنا العمل والحزن والغضب. وإن كانت الصلاة ساعدتنا في العمل، إلا أنها لم تشفع لنا بفهم: ما الذي حوّل المدينة بين ساعةٍ وضحاها إلى مرمىً لأسلحة الأمن والجيش، ولماذا استباح هؤلاء حرمة المشفى، وجعلوها امتداداً لساحة حربهم على المواطنين العزّل، يتابعون إطلاق رصاصهم عليهم حتى وهم جرحى محمولون إلى المشفى للعلاج؟!
وُسم ذلك العام باسم “حوادث البدو”. حوادث بدأت شرارتها بين البدو والدروز، وانتهت بمواجهةٍ شاملةٍ بين الناس والأمن والجيش، وذلك في أول حكم الرئيس بشار الأسد.
لم يكن البدو الرحّل والدروز الحضريون يوماً أعداء. تعايشوا دوما كفئتين تسعى كلّ منهما خلف رزقها، ولا تستغني عن الأخرى. مؤخراً توطّن البدو في أطراف ريف السويداء والمدينة، وظلّوا يعتنون بمواشي الدروز طوال العام ويعطونهم منتجاتها وفق اتفاقٍ معلوم، ويحصدون زرعهم ويقطفون ثمار بساتينهم ويشتغلون لديهم كعمالٍ مياومين موثوقين.
اعتمد أهالي السويداء في أمنهم دوماً على الدولة، ولم يحاولوا امتلاك أسلحة فردية، فيما اعتاد البدو على التسلح اللازم لحياة الترحال. ومن وقتٍ لآخر، دأبت فروع الأمن على افتعال الانتهاكات عبر بعض البدو المرتبطين بها لتُشعر الأهالي دوما بحاجتهم لحمايتها، ولم تتدخل حين كان عليها أن تفعل. كانت اللعبة مفضوحة إلى الحد الذي ولّد احتقاناً كبيراً تفاقم مع مقتل أحد شباب الدروز على يد بدويّ أطلق أغنامه في كرمه.
هبّت المدينة وقراها في ساعات قليلة. حمل طلاب الثانوية العصي وجالوا على المحلات مطالبين التجّار بإغلاقها وإعلان الإضراب العام حتى القبض على مسبب الفتنة من زعيم البدو. اعتصم الألوف أمام السرايا (دار المحافظة). كان مطلبهم الوحيد أن تفي الحكومة التزامها في حماية الأهالي، وأن تكفّ عن تحريض البدو على ترك مواشيهم ترعى في منطقتي الاستقرار الأولى والثانية، وألا تتغاضى عن تكديسهم السلاح وإشهاره في وجه الأهالي.
وبسرعةٍ هائلة انتشر الجيش والأمن بأسلحتهم الكاملة ودروعهم الواقية في ساحات المدينة، وكأنهم يواجهون حركة تمرد قد يكون هدفها إسقاط حكومة الرئيس الجديد، لذا يجب إخمادها بالرصاص بدلاً من النظر في أسبابها. سرى حظر التجول دون تنبيهٍ أو إعلان، وأُطلقت القنابل المسيلة للدموع في كل مكان. كنتُ على الطريق أمام عيادتي حين سقطت أمامي قنبلةٌ غيّبتني للحظاتٍ عن الوعي. أذكر أنني استخدمت بلوزتي ككمامةً وجاهدت في التفكير كيف يمكنني أن أستدعي ممرضتي من الطابق الثاني لنهرب معاً..
قتل الجيش يومها نحو عشرين شاباً من الدروز أثناء احتجاجهم، وتجاوز عدد الجرحى المائتين. خرّجتْ إدارة المشفى جميع مرضى الأمراض الربّانية ليتسع المكان لجرحى الحرب المفاجئة. بعضهم تقاسم السرير مع جريح آخر، وبعضهم فُرش له في كوريدورات المشفى، وفي جناح الأطباء، وعلى شرفات جميع الأقسام. لم تكن الطواقم مدرّبةً على خطط الطوارئ. حضرت جميع كوادر الصحة طوعاً إلى العمل دون أن يستدعيها أحد، تسيّرها النخوة أكثر من الخطط المنظمة في هكذا حالات. اشتغل الأطباء في الجراحة والتمريض وطيّ الشاش والتعقيم والتنظيف ونقل المرضى، وتسابقوا إلى التبرّع بالدم. سائقو التكسي الذين أوصلوهم إلى المشفى رفضوا أخذ الأجرة منهم.
معظم القتلى والجرحى كانوا من فئة الشباب. لم يسعهم الوقت ليفهموا لماذا قوبلوا بالرصاص.. من بينهم شابٌّ ابن عشرين عاماً، خريج المعهد الصحيّ المتوسط، لم يكن بين المحتجين. كان جاء إلى المشفى ليكمل أوراق توظيفه، وأصابته رصاصةُ جرحتْ ساقه، وخاطوا جرحه، لكنه مات. تبيّن أن رصاصة (دمدم) كانت اخترقت ظهره وانتثر الخردق في أحشائه ونزف ببطء حتى مات. كان في جيبه طابعٌ بريدي، و10 ليرات، وساعة يدٍ قال والده أنه استعارها منه.
امرأةٌ وحيدة كانت بين القتلى. كانت على شرفة بيتها مقابل المشفى تنشر الغسيل. لم تصدّق أن المشفى يمكن أن يطاله الرصاص. هوت على وجهها ويدها ممسكة بالحبل، وهوت فوقها شراشفها البيضاء لتستر رعبها
في ذلك اليوم ارتدى الرعب المدينة، وغاب عنها الوعي والفهم والعقل.. اندفع الشباب للهجوم على بيوت البدو البريئين يحرقونها ويشبعون ضرباً مَن لم يهرب من أصحابها.
أحد الأطباء كان بدوياً، انهمك في إسعاف الجرحى كما رفاقه، ولا يعلم أن الشباب يحرقون بيته
!إلام أفضت تلك المواجهات؟
أصدرت نقابة الأطباء والمحامين والمهندسين بيانات استنكارٍ لم يكترث بها أحد. لاحقاً تمّ تعويض الجرحى وأهالي القتلى بمبالغ مهينة، وبعد وقت ليس بالطويل، عاد البدو إلى بيوتهم وإلى أعمالهم المشتركة مع الدروز، ولم يلق القبض على رأس الفتنة بين البدو.
لكنّ إنجازاً كبيراً تلا تلك الحوادث، فبسببها أنشئ في السويداء فرع المخابرات الجوية السيئ الذكر
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.