قدمت المخرجة اللبنانية الشابة لينا عسيران مسرحية “المطهر” مساء يوم الجمعة 19 حزيران على مسرح دوار الشمس في متن بيروت. العرض الذي يندرج بصفة عرض تخرج لطلاب التمثيل في الجامعة اللبنانية لم يبدُ عرضاً طلابياً، بل غلَب عليه طابعاً احترافياً نادراً ما يقدّم في عروض التخرج والعروض المدرسية.
ربما يعود السبب لجودة النص ومعاصرته لقضايا تلامس طبقة الشباب في أي مكان في العالم، فنص المطهر للكاتب الفرنسي “جوريس لاكوست” الذي لم يتجاوز من العمر 42 عاماً، والذي بدأ بمزاولة العمل المسرحي مع بداية الألفية الثالثة، يعالج قضايا تلامس الإنسان المعزول عن ثقافته ومحيطه، فالنص هو مأساة إنسانية، أو بالأحرى هو مأساة حياة الإنسان المعاصر اليومية. وعلى الرغم من فقدان النص لعنصر الحكاية وغياب الحبكة بمفهومها الكلاسيكي المستند لقصة كبرى تسرد أحداثها الشخصيات عن طريق الفعل المسرحي، والاستعاضة عنها بسرديات صغرى تتناغم مع مشاعر المؤدين، إلا أن العرض لم يكن فجاً وخارجاً عن نطاق التواصل مع المتفرجين. وربما كان خيار المخرجة “عسيران” للهجة اللبنانية المحكية مناسباً لتسويغ النص، وتبسيط المفاهيم العميقة المتأصلة في الأنا والذاتية.
منذ دخولك إلى الصالة ستسمع صوت فتاة تمارس فعل البوح، الفعل الذي يبدو أنه يمارس منذ وقتٍ طويل، ربما منذ الأزل، فتتردد كلماتها على مسامعك لترسم لك صورة عن هذا المطهر، فالمطهر هو مكان أزلي لا يمكن للعقل البشري إدراك بدايته، فأنت الآن هنا في هذا المكان الذي تُعذب فيه أرواحنا بشكلٍ موقوت، لتتحقق وظيفة المسرح الكلاسيكي التي حددها أرسطو بالتطهير.
وتضفي طبيعة الحوار التكرارية موسيقى خاصة على العرض، تنسجم مع الحركات الجسدية المتكررة وإن لم تكن مطابقة لها في معظم الأحيان، ليخلق هذا التضاد شعوراً بالانفصام والشتات الذين يعاني منهما الإنسان المعاصر. والتضاد بين الحوار والحركة لا يصل لمرحلة التعارض، فكلمات الممثلين التي تعبر عن مأساة الحياة اليومية لا تتعارض مع الأفعال التي يقوم بها الممثلون على الخشبة، والتي تقترن بغرائز الحياة (الجوع، والجنس …) والأفعال اللازمة للبقاء. إلا أن العبارات بكليتها السلبية وتضمينها لرغبة مكبوتة بالفناء، تشكل تضاد مع الأفعال ذات الكلية الموجبة المتجهة نحو البقاء. وهكذا تتكرر الكلمات والحركات دون وجود حدث مسرحي _بالمعنى التقليدي للكلمة_ إلى أن يتم التحضير لوجود حدث، وهو دخول شخص عادي يتحرك ويمشي بشكل عادي، ليبدو أن الحدث الوحيد في الحياة هو الوجود لا أكثر.
ومن خلال تداخل أشكال الأداء الذي شكّل العمود الفقري للمسرحية استطاعت “عسيران” أن تقدم عرضاً متمرداً على أشكال الأداء في العروض المسرحية في العالم العربي، إلا أن أداء أغلب الممثلين لم يكن بحجم الفكرة، فافتقر البعض للحس والشعرية المتطلبة بالحوار، ولكن جميع المؤدين استطاعوا تقديم عرض مميز من حيث الأداء الحركي، ومن الممكن الإشادة بالأداء المتميز الذي قامت به الممثلة ماريا غصن.
وتتداخل مع العرض المسرحي خلفية باهتة لشاشة تعرض صوراً لمشاهد دموية مستقاة من أرض الواقع في أغلبها، لتبدو عملية التطهير ناجمة عن الشعور بالذنب وتحميل الجميع مسؤولية الممارسات اللا إنسانية في ظل الحروب والأزمات البشرية، لتحيلنا المسرحية لمقولة مسرحية”بعد السقوط” للكاتب الأمريكي “آرثر ميللر” (من ذا الذي يمكن أن يكون بريئاً فوق جبل الجماجم هذا).
ومن الجدير بالذكر أن هذا العمل هو العمل المسرحي الأول للمخرجة لينا _التي لم تبلغ من العمر 24 عاماً_ على الصعيد الاحترافي، بعد مسيرة طويلة لها بإخراج عروض للهواة والأطفال تمتد منذ حرب تموز 2006.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.