يُقالُ، أو بالأحرَى، يقولُ العلم: “الحيوان يشمُّ ارتفاعَ نسبةَ الأدرينالِين في دَمنا حِينَ نخافُ، فيُهاجِمنا”.
وبكلِّ ما أوتِينا من سخفٍ، نَقتنعُ بذَلكْ، دونَ أن نفكّر لوهلةٍ، أنّه يشمُّ ارتفاعَ العدوانيةِ في دِمِنا، على سبيلِ المثال، فيهجمْ.
تلك التي أضمرناها منذُ هجرنَا الغابةَ، واخترنا إخضاعَ كائناتِها لـ” تفّوقنا العقليّ”، لابدّ أنّ كلَّ شعورٍ بالتّفوّق على آخرٍ، أيّ آخرْ، هو أدرينالينٌ أيضاً ومصحوبٌ بذاتِ العدوانيّة المبطّنة بـ”الخوفْ”، لكننا اتفقنا سرّاً على تسميتها “خوفاً”، لكي يكونَ الآخرُ هو الوحشُ ونحنُ الضحية.
فلو كانَ ما تشمّهُ كائناتُ الغابةِ فينا هو الخوف، ربما كانَت مَشتْ في حالِ سبيلها، حين تُصادفنا، لأنّنا حكماً لن نصادفَ كائناتٍ ” فُتُواتٍ وزعرناتٍ” مفتولةَ العضلاتِ بأجسادٍ تملؤها الوشومْ، تتجوّلُ في الأرجَاء (كما يتجول بعضنا في الطرقات) بحثاً عَن عراكٍ مع “إنسان”، لكنَّ استهجاننا الأوّليّ لرؤيتهم، وفوقِيتنا عليهم، تدفَعهم ليهجموا علينا، وإلا فلنجرِّب العودةَ إليهم، أو مُصادفَتهم ونحن عُراة، دون تكلّفٍ أو شعورٍبالــ “خوف”، أظنُّ أنَّهم سيرمِقوننا بِسكِينةٍ ويمضُون في حالِ سبيلهمْ.
أعتقدُ أنَّ عدمَ اعتيادِ كائناتِ الغابةِ -منذ زمنٍ طويلٍ- على رؤيتنا ضمنَ تركيبةِ “سُلّم الهرم الغذائي”هَرمِنا وإيّاها بالطبع، “هَرَمِنا” الذي سرقنا قمّتهُ وهربنا بها، أقول إنَّ عدم اعتيادها على رؤيتنا إلّا صيّادينَ أو(خائفي مصادفة) جعلنا مجهولين لها، وما عاد الذي يحكم العلاقة بيننا هو التّراتبُ، فأيُّ كائنٍ في الغابةِ (صغيراً أو كبيراً، شرساً أو مسالماً) قد يترككَ بحال سبيلكَ، وقد يهاجمكَ، و في كلتا الحالتين لا أمرَ شخصيٌّ بالنسبة له، إما أنت (فريسةٌ) لأحدِهم فيهاجمكَ أو (صيَّاد) أحدِهم فيهربُ منك، أما أن تكون قابِلاً على المهاجمة من قبل الجميع (حتى ولو لم يكونوا جائعين ولم تكن طعامهم الطبيعي)، أو المسالمة مع الجميع إلا إذا كانوا يتضورون جوعاً ولا طعام متاح غيرك، فذاك يعني أنك من تضمر العدوانية، فتلك الكائناتِ بين بعضها (كما وصلنا من ذاتِ العلم الذي أسماهُ خوفاً)، تعرفُ من تستطيع مهاجمته(فريستها) ، ومن تهرب منه (صيّادها)، عدا ذلك، أنا شخصياً لم أسمع عن معاركَ أو حروبَ بين كائناتِ الغابة، كأنْ هجَمتْ قبَيلة “بني أُسَيد” على قبيلة “بني ذِئبان” مثلاً، أوعشيرة “البُو ثعلب” على “عَشيرة البو بَعوضْ”، فقط نحنُ معشرُ “الحيونات” من نهاجمُ بعضنا البعض، نتيجة اشتياقنا لحياة الصيد النَّبيلةِ تلك، ونبرّرها بالخوفِ من بعضنا أو”الدفاع عن أنفسنا”، حسناً، مّمن؟ من أنُفسنا!!.
لنعترف إذاً أنّنا لو وَصلنَا السّماء بالعُمرانِ، فإننّا بذاك العمران نهربُ “عامودياً” من حَنينِنا الأفقيّ المَفقود “يخيفنا الأفق”، يُخيفنا أكثرَ من نَاطحاتِ السّحابِ أو رؤيةِ الطائراتِ عالياً بحجم ذبابة، وتخيُّلِ أنّ فيها حيواناتٌ مثلنا، وصلَ حنينها اللاواعي الخائف إلى الأفقيات، إلى درجةً باتت فيها تتنّقلُ جوّاً، بل حتّى تَخرج ُبحثاً عن كوكبٍ آخرِ لتعيشَ فيه، خوفاً من بعض ِأبناءِ جِنسها “الهَمجيين المُتخلّفين” فِيما هي الأشدُ حنيناً لحياةِ الصّيد، ومستعدةٌ لتخرج إلى كوكبٍ آخرٍ لتفجِّر الأرضَ فيمن تبَقّى منّا نحنُ الحيوانات وكائِناتِ الغابةِ الودِيعة.
يُروّضُون النّمورَ في الهِند، يرُاقصونَ الأفَاعي في أفرِيقيا والصّين، ويضَعون رأسَهم في فم التّماسيحِ في الآمازون، حيوناتٌ مثلنا من بني جِنسنا يَفعلون ذلك، ربمّا إذا ً كائناتُ الغابةِ هي الأليفة، ونحنُ الوُحوش.
ولكي لا نغرقَ في الإطلاقِ والنَّحديد، قد يكون ذلك الذي تَشمُّه كائنات الغابة فينا هو الخوف، لكنِّه باعتقادي خَوفُ العودة إلى تلكِ الحياةِ، ممزوجاً مع حَنين الصّيد، يُنتج العدوانية.
لو سَألنا بَعضنا البعض ،عن فَائدة الجيوش مثلاً، سَنجيب بأنّها تحَمينا من جيوشٍ أخرى، حَسناً، تَعالوا لنلُغي الجيوشَ الأخرى، ببساطةٍ لن نحتاج لجيوشٍ تحَمينا منها.
خوفاً من وصُولنا إلى تلكَ البدَاهة البَسيطة، سُوِّقَ لنا من تُجّار الحروبِ والعدوَانية مع مطلعِ القرن عشرين، وجودُ كائناتٍ ومخلوقاتٍ فضائية معاديةٍ في كواكبَ آخرى، وصُحوناً طائرةً أيضاً، تهدّدُ وجُودنا “الإنسانيّ” وكانَ لها بالمرصادِ سُوبرمان (الرجل الأبيض)، وجحافلُ الآلات والطائرات والبنادق (أعضائه التناسُلية الحديثة)، وباتَ من يعلنِ خضوعهُ لهم، يحصلُ على إحساسٍ بالأمان.
حدثَ كلُّ هذا بعدَ أن أرادتِ الحرب العالمية الأولى تداركَ ظهورَ بعضَ الأصواتِ الخافتةِ للوعي الفكري والأدبَي والفنّي الـــــ”ما قبلْ إنساني” الذي خلَّفه انهيارُ آخر إمبراطورياتِ النُظم الدينية (مع مطلع القرن العشرين) تلك النُّطم التي كانتْ تُشرّع الحروب والجيوش باسم “الله أو الرّب”، فما كانَ منَّا إلّا أنْ أطلقْنا (كلاب صيَدنا الدَّاخلية) على بعض ٍ لـ “نَتناَتَش” جثّة التاريخِ القديم (الآمن)، مُحاولِين مَلء معدةِ وعينا بما يَسدُّ رمق لاوعينا الخائف، وتدارك بداهةِ الأجوبة.
من هنا أقول، لنرجعْ إلى الغابة إذاً، هناكَ، على الأقل لن نقتل إلا جوعاً لفريسة أو دفاعاً ضدَّ صيّاد، نقتلُ ونُقتلُ، نأكلُ ونؤكلُ بشرف، بمعركةً متكافئة، مخلباً لمخلب، نابً لناب، كائناً لكائنْ.
أليسَت العودُة إلى تلك المعارك ، أفضلَ من إطلاقِ أيام عالميةٍ تضامنيّةٍ مع حالاتٍ أو أسماءٍ أو صفاتٍ، هي جميعها ضحيةٌ لــ “الإنسانية ” نفسها، أو الخروجِ بتظاهراتٍ واعتصاماتٍ عالميةٍ باسم “الإنسانية” أيضاً، ضدَّ قتلِ بعض الشعوبِ، التي في العمقِ، تُقتل للحفاظ على تلك “الإنسانية” ، تًقتل لردعنا من العودة إلى معاركنا الأولية الخام، لنبقى بحاجتها، حتى لو كان احتياجنا لها قد يصل بنا لأن نفتح حرباً معها، لأن تلك الحرب تحديداً هي بداية نصرها، بداية انتصار “الإنسانية” وعلى من!! على الإنسان نفسه.
لنعد للغابة إذاً، أو لنلغي الجيوش كلها، أو على الأقلّ، لنعترف بأننا الأكثر تفوقاً بالعدوانية فقط، تلك العدوانية مصحوبةً بالعقل، لاشك هي من جعل للحضارات نَوسَانها المُفرَغ بين قمةٍ و انهيار، قمةٌ حين تنوس باتجاه العقل، وانهيارٌ حين تنوس نحو العدوانية.
وإذا لم تُعجبنا أيٌّ من هذه الخياراتِ، فلنحملْ جميعاً أسلحةً، ونصبحُ كلُّنا جيوشاً، نَفتتح معركةً بلا قواعد، معركةَ إفناءٍ ذاتيّ، بلا سفينةِ(نوح) حداثيةٍ تُقلُّ آخر النّاجينْ، لأنَّ تلكَ المعركةِ (المقبلةِ لاشكّ) ستكونُ أوَّل وآخرَ معركةٍ بلا نَاجين، صَيدُ الإنسانية الأثمنْ.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.