ما مِن جديدٍ سيحدثُ،
غيرَ أنّنا نحاولُ اجترارَ أنفسنِا، غداً، بعدَ غدٍ، هكذا، بطرائقَ أخرى، عسَاها تختفي لدعةُ الموتِ في مذاقِ المضغةِ الأخيرة من كلِّ يوم.
………………………………………………….
وما دامتِ الحياة حفلةً تنكّريّةً مجانيّةَ الدخولِ، لِمَ نَخجلُ من ارتداءِ وجوهنَا الحقيقيةِ خلالها،
تلكَ المرميّةُ في الأقبيةِ مع أشياءٍ كانت ثقوبَ الضوء في حياتِنا يوماً، قبل أن نرميهَا بينَ قطعِ الأثاثِ المعطوبةِ، وعفونةِ الأمسْ
………………………………………………..
وهمٌ هو كلُّ هذا، حديثُنا الطّويلُ الدّائمُ عمّا كنّاه، نعيُنِا الفاضحُ لعديدِ قَتْلانا : لـ “نحنُ ذاتَ مرةْ”، تراكُمُنَا غباراً على سطحِ طاولةِ مكتبٍ، تناقشُ النافذةَ عن الأثرِ “الأنطولوجي” للهواءِ على أصغرِ مكوناتِ هذا الكونْ
………………………………………………..
وإذْ نحنُ نتذكّرُ، لا نتذكّرُ ما حدثْ، إنّما نروي ما أثارهُ فينا من انفعالاتٍ لحظةَ تَذَكُّرهْ
………………………………………………..
ولا أعرفُ شيئاً واحداً، حقيقياً واثقاً حادثاً، لا أعرفُ شيئاً البتّة، إلا ربما اعتقادٌ سخيفٌ، أنّنا كنا حيواناتٍ صيّادةً، وأصبحنا دواجنَ قاتلة.
لا فرقَ بيننا وبينها، الدواجنُ ،
هيئةُ الجسدِ ربما، ووعينا بأنّنا دخلنا بقرارٍ طوعيّ الحظائر : الأسرة، الدّين، الدولة، الوطن، الأحزاب، الرايات، الأخلاق القيم، إلخ إلخ
مقيدونَ نَحيا ، إلى درجةٍ باتَ فيها أن نكون أحراراً يعني أن لا نكونَ، أن لا نوجدَ أن لا ننطقَ حتّى، أثراً خفيفاً مالحاً، ربمّا نكونُ، على ياقةِ قميصٍ ممزّقْ
………………………………………………..
القلوبُ أشجارٌ دائمةٌ الخضرةُ، أو هكذا نُولدُ جَميعنا بها، لكنّ خوفَ معظمِنا من الموتِ، أكْرَهَها على دخولِ لعبةِ الطبيعةِ، فباتت تذبلُ في الخريفِ، قلوبُنا
………………………………………………..
والخيالُ، في أحد أوجههِ العديدةِ، إطلاقٌ كاملٌ للعاطفةِ من فوهةِ الحسِّ، لا توصِيفها، الحديثُ عنها، إخبَارها
نفخُ الضوءِ من فتحاتِ قلوبنا، نحو وجوهٍ تلعبُ السّماءُ خلفها الغمّيضةْ .
………………………………………………..
يا مقتلَ المسافةِ، يا قلبُ،
يا قتيلَ الوقتْ
هل كلّما لجأ إلى تجاويفكَ القهرُ خرجَ مبتلاً بالعطشْ
أم، من القهرِ أنتَ كنتَ تكبرُ،
السجينَ الأول، تَعسّفيَّاً، في أقفاصِنا الصّدريةْ
ترعفُ، برقصكَ النقريّ، دماءكَ كاملةً من نقيِّ عظامنا : نافورةً، ترشُّ يَحموركَ* في اصفرارِ الخوفِ فينا، إلى أن يطلقَ الموتَ يوماً سراحكْ
(*اليحمورْ أو خضاب الدم أو الهيموغلوبين : بروتين محمولٌ داخل خلايا الدم الحمراء يحتوي على ذرات الحديد. يلتقط الأوكسجين في الرئتين ويسلّمه إلى الأنسجة للحفاظ على حياة الجسم.)
………………………………………………..
وكنّا نحزن، كثيراً ما كنّا نحزنُ
نتعلم كيفَ نعضُّ على الشفاهِ حتى تنزفَ، ننطحُ الحائطَ حتّى ”نجومَ الظهرِ“ نراها، نُهسترُ نصرخُ، يُغشَى علينا قليلاً، نهدأُ، ثمَّ نعيدُ دورةَ الحزنِ، هكذا بلا هوادةٍ، بلا رحمة.
…………………………………………………
وماذا تفعلُ الوحدة ؟
لا تفعلُ شيئاً، وتفعلُ كلَّ شيء،
ولّادةٌ خصبةٌ، هي، لكلِّ ما نفتعلهُ من علاقاتٍ وتفاصيلْ
اللقمةُ التي تغصُّ دائماً بها مع كل تناولٍ للطعامْ
الحزنُ الذي تثيرهُ أولُ ورقةٍ يهدهدُ الخريفُ مهدها ريثما تنامْ وحيدةُ على الأرضْ
خليطُ الروائحِ العالقِ وشماً على كتفي القميصِ الذي كنتَ ترتديهِ حينَ أفرغوا كلّهمْ : دمعَهم ، عُطورهمْ ، روائِحهمْ ، وعَصُّوا العناقَ، وأنتَ تشدُّ الرحيلَ ككلبٍ يجرُّكَ عنوةً ويعوي
المللُ التامُّ الذي نتلهّى عنهُ بالضجيجِ الكبيرِ المتنامي في هذا العالمِ، يوماً بعد يوم، بينما الردمُ فوقَ الصّمتِ يتراكمُ، ولا صوتَ للصمتِ لا انفعالَ أو حركاتٍ أو شيءَ يُبديهِ، ليخبرنَا أنّه يختنقُ ، أنّه يلفظُ آخر أنفاسهِ ، بصمتْ
………………………………………………..
الصداقةُ، الصّديقُ، الخِلُّ، الصّاحبُ
بحثٌ آخرٌ شاقٌّ، عن تخليدِ لنا في ذاكرةِ شخصٍ ما، في رواياتهِ عن حياتهْ، عنّا ، ماذا كنّا نحبُّ، حماقاتُنا ، ألَقُنا، حزننا، مَاهيتنا، ضعفنا، مَفاعيلنا فيه
هو أننا وحيدونَ، جميعاً، بعضنا يتصادقُ ليطفئ ألسِنَتها، الوحدةْ، دون وعيٍ منه بذلك، وآخرون، يَعُونها يَعيشونها، تَتآكلهمْ أنيابُها، وإذ يحدثُ لاثنينِ منهما لقاءٌ، يتشاررُ بينهما شيٌ ما عميقٌ، عمقَ إحساسِهما ووعيهِما بها،
هذا الشيءُ قد يقتربُ ربمّا قليلاً مما نحبُّ تسميتهُ صداقةْ
……………………………………………….
أن تُقدّمَ معروفاً لطيفاً، لشخصٍ ما يحتاجهُ، ويشتركُ معكَ بعصابٍ جمعيٍّ ما، هذه ليست إنسانيةً
أن تُقدّمَ ذاتَ المعروفِ، لأيٍّ شخصٍ، ينتمي لجنسِكَ، دون تميزٍ منكَ لانتمائه أو لونهِ أو دينهِ أو إلخ إلخ .. كذلكَ، ليسَ إنسانيةً ذلك
“الإنسانيةُ” إذا أردنا الخوض بها، هي أن لا يحتاجُ أحدٌ، لأن يقدمَ له آخرٌ يدهُ إلا للمصافحةِ الودودةِ، وتلك يوتوبيا أيضاً، كالدين، كالأحزاب، كالسياسية، كالعقائد جميعها، كأي ادعاءٍ لامتلاك الحقائق والأجوبة المواربةِ للأسئلة “المصيرية”، هي عقدُ صلحاتٍ مشبوهةٍ بينَ وعينا بالموتِ، وانتمائنا الحقيقيّ للعيش البليدِ فقط ، كبقيّةِ الكائناتِ، ككلِّها، دون كذبةٍ تخففُ حدَّة الموتِ علينا، أنّنا سنغادرُ هذا العالمَ، جميعنا، دونَ أثرٍ يُذكرْ
………………………………………………..
المواظبةُ على شيء، قتلٌ بطيءٌ لهُ،
استهلاكٌ نهمٌ لما لهُ في داخلكَ، من تَفاصيلْ
خنقٌ لهوائهِ بالاحتضانِ الشديدِ، دائماً، لمجرى أنفاسهْ
مواظبتنا على الحياةِ، ستوصلُنا في نهاية الأمر إلى الموتِ
………………………………………………..
نأتي إليها، الحياة، نتيجةَ سوءِ تفاهمٍ بسيطٍ مع الموتِ، ينتهِي باقتنَاعنا معهْ
………………………………………………..
ربّما الكتابةُ أصعبُ وسيلةٍ لنطقِ الحسِّ، لكنّها ليستِ الأقلَّ صدقاً، كما يشاعُ، هي إمّا تَصنّعٌ لا مدركٌ ، أو صدقٌ قاتلْ
………………………………………………..
الصّمتُ ليس اللاصوتُ، هو الصوتُ الدّاخليُّ للكائناتِ ربّما .
أن تزيحَ ركامَ الحجارةِ من فوقِ فمهِ، لينطقَ، تُربّي الهدوءَ حينَ يخرجُ من جحرِ ذاتكَ، طفلاً ، لأوّل مرةٍ يكتشفُ الحياة.
………………………………………………..
لا يتعبُ الوقتُ، لا يقفُ، لا يُوجدْ
يَحلُّ في الكائناتِ، يرتَديها حتّى يسأمَ منها، ثم يرمِيها لشريِكه الموتِ، في أفضل صفقة يمكن عَقدُها بينَ الوهم والحقيقة.
………………………………………………..
المطرُ والطريقُ لا ينسيانِ بعضهُما، قديمةٌ العلاقةُ بينهُما
قِدَمَ العويلْ
………………………………………………..
ولا نزالُ هنا ، عالقينَ
خثرةً في ضَرعِ ماعزْ
يغصُّ بنا العشبُ أوّلَ الرَّعي، أغاني البدويِّ الغامضةُ، التي لا تفهمُها سوى الرّبابةُ والجدّاتْ، وبعضٌ من ثغاء المساءْ
………………………………………………..
– هل لي بقبلةْ !
– قَبّلِ الشّمسَ، لن تنساها شفاهُكَ ما حييتْ
– هل لي بعناقْ !
– عانقْ كلباً
يحفظُ رائحتكَ أكثر من رائحةِ بولهْ
– هل لي بموتْ !
– منذُ ولدتَ أُعْطيتَهُ، وما ذاكَ النهائيُّ إلا انْعتاقْ
– هل لي بقمرٍ !
– رضيعاً نلتهُ : ثديُ أمكَ
عندما وجهُها، لو أدركتَ حِينها، كانَ السّماءْ
– هل لي بحلمٍ !
– لكَ الكثيرُ ، لكنّكَ مناشداً السّكينةَ ، سمّيتَها كوابيسْ
– هل لي ببحرٍ !
– محيطانِ في عينيكَ ، فقط لو تتركُ لقلبكَ دفّةَ السفينةْ
– هل لي بوِحدة !
– افتحْ عينيكَ أغلق أذنيكَ ، واجلس مع الآخرينْ
تعليق واحد
تنبيه المشاركة بعضٌ مما حدثَ .. منذُ نُفيتُ من خِصيةِ أبي – فَجْوَةْ
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.